المواطن

سليمان وعمر.. والقاضي “Bourreau”

 بقلم: أبو علي *
لو كان عمر الراضي صحفيا مهنيا لتوافرت لديه كوابح ذاتية تُمليها عادة أخلاقيات المهنة الصحفية، ولم يكن ليتهور ويصف قاضيا، قضى أكثر من أربعين سنة في محراب العدالة، بأوصاف تحقيرية من قبيل”الجلاد والمعذب”، رغم كل التلطيفات والتحسينات اللغوية والمفاهيمية التي حاول سليمان “القانوني” أن يدخلها على الكلمة الأصلة المستعملة في التغريدة الصادرة باللغة الفرنسية “Bourreau”.

ولو كان عمر الراضي أو غير الراضي صحفيا لكان أحرص الناس على عدم التحريض على العنف والكراهية ونصب المشانق للقضاة في الأرصفة والطرقات. ولو كان كذلك لما صدح في الناس وفي معشر الفايسبوكيين بدعوات تستهدف القضاة وتُحرض على عدم التسامح معهم والصفح عنهم، بدعوى أنهم موظفون بلا كرامة، وأنهم أولى بالقصاص يوم النفير الأعظم الذي تختلف مسمياته بحسب إيديولوجية من يعتمل هذه الأفكار، فهي إما “ثورة” إن كان شعرك أشعث أغبر، أو      أنها ” قومة” إن كانت لحيتك هي الأشعث الأغبر.

فمن المؤسف جدا، أن نتطبع اليوم مع دعوات العنف والكراهية والتقريع والتجريح من تحت يافطة حرية التعبير، ومن المخجل أيضا أن ينبري البعض مدافعين عن تغريدة تصدح بالتحقير والكراهية، محاولين تسويغها وارتداء جبة المحامي المدافع عن عمر الراضي، والحال أنهم إما لم يطالعوا التغريدة من الأصل، أو أنهم لا يميزون بين النقد والقذف، وبين حرية التعبير وجرائم الأقوال، أو أنهم ببساطة لا يتملّكون أبسط القواعد الفقهية والقانونية.

فسليمان “القانوني” الذي أشهر قاعدة القانون الأصلح للمتهم، مدفوعا بنزق الدفاع عن عمر الراضي، لم يكن يعلم أن المقصود بهذه القاعدة القانونية هي الموازنة بين التشريعات في الزمان، كاستثناء من القاعدة العامة القائلة بعدم رجعية القوانين، إذ أن القانون الذي يطبق في حالة صدور قانون يَجُبُّ قانونا سابقا هو التشريع الأصلح للمتهم. أما ما ذهب إليه سليمان “القانوني” من ترجيح بين القانون الجنائي وقانون الصحافة في قضية عمر الراضي، فلا علاقة له بالقانون الأصلح للمتهم، وإنما له علاقة بقواعد قانونية أخرى تتعلق بترجيح الخاص على العام وغيرها.

فالمشكل القائم اليوم، ليس هو أن الدولة تتحسس أصفادها عند عتبة حرية التعبير، ولكن المشكل هو أن الكثير من الوافدين على مهنة الصحافة أصبحوا محللين حتى قبل أن يدركوا مهمة الإخبار، وأضحوا يدبجون الافتتاحيات وهم لا يعرفون حتى الحدود الدنيا لحرية التعبير، وهم الذين كانوا بالأمس القريب، وتحديدا في سنة 2006، لازالوا يتأبطون القيتارة والطبلة ينشدون الأغاني في مخيمات اليسار الذي كان في خاطري.

وللأسف الشديد أيضا، فهذا الهدير الدافق، الذي جرف سليمان القانوني ومن معه إلى مهنة المتاعب، هو الذي أفرز أقلاما تنفث الرصاص وليس الحبر الجاف، وتصف القضاة بالجلادين والمعذبين، وتحرض على العنف والكراهية، بدعوى الانتصار لحرية التعبير، بيد أنهم رفضوا بالأمس، وبشكل قاطع، أن تخالفهم صحفية وبرلمانية في الرأي والموقف، فوصفوها بأقبح عبارات العهر والكلام البذيء!

إن أمثال هؤلاء، ممن لا يميزون بين الصحافة وكتابة الخواطر، ومن يستحضرون أفكارهم ومواقفهم الإيديولوجية في مهمة الإخبار والتواصل مع الرأي العام، ومن لمن يسعهم أي مكان آخر سوى مهنة الصحافة التي أضحت بلا “بواب”، هم من جعلوا النقاش العمومي كله تراشق بالسب والشتم والكراهية، وهم من أفرزوا حالة من الصدامية بين الحرية والواجب، وهم من يحاولون إسقاط أفكارهم المتقادمة في قالب من الافتتاحيات والمقالات السمجة.

والذي لازال يصر على أن معتقلي الحسيمة تعرضوا للتعذيب، ويطالب رئيس غرفة الجنايات بتوقيف المحاكمة والبت في مزاعم التعذيب، عليه أن يطالع أولا وثائق وسجلات هذه المحاكمة، ليعرف بأن قاضي التحقيق أمر فعلا بإجراء الخبرات الطبية اللازمة، التي نفت وجود علامات وآثار للتعذيب، وأن المحكمة بدرجتيها الأولى والثانية بتت برفض دفوعات التعذيب لانتفاء عناصرها التكوينية المادية والمعنوية كما هو محدد قانونا.
أما التسريبات المنسوبة لطبيبين انتدبهما المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والتي تناولهما الإعلام قبل المجلس نفسه وقبل عرضها على مؤسسة القضاء، فيكفي أن يعلم سليمان القانوني بأن بروتوكول اسطنبول يحدد ولاية الطبيب في الفحص وليس في مناقشة ضمانات الاستجواب وإشعار العائلة والاتصال مع المحامي…، فهذه مسألة من اختصاص رجال القانون، وليس الطبيبين اللذين تركا مهمتهما الأصلية وانبريا يسألان الموقوفين عن ضمانات الحرية الفردية، مدفوعين في ذلك بخلفيات ومواقف جاهزة يعلمها الجميع إلا سليمان القانوني لوحده.
*برلمان.كوم

زر الذهاب إلى الأعلى