حكومة الرئيس في تونس توافق واسع لعزل النهضة
نبيل القروي يكسر الحصار ويتحول إلى لاعب محوري في التوازنات السياسية.
تشهد تونس حركية كبيرة على المستوى السياسي ساعات قبل عرض حكومة حبيب الجملي أمام البرلمان لنيل الثقة، ومن اجتماع “حاسم وهام” بين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي والرئيس التونسي قيس سعيد إلى اجتماع “سري ودقيق” بين رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد بـ”عدو الأمس” نبيل القروي رئيس “قلب تونس” الذي بات محور التحالفات الحكومية والصفقات العلنية والسرية، تلاه اجتماع ثان في ظرف ساعات وأوحى بأن الرجلين باتا على تفاهم.
وبات القروي عنصرا رئيسيا في تحديد مسار حكومة الجملي وسط معلومات عن لقاء جمعه بزهير المغزاوي رئيس حركة الشعب التي تقود مساعي فرض «حكومة الرئيس»، في إشارة واضحة إلى أن الاحتراز السابق على حزب «قلب تونس» واتهامه بالفساد لم يعد واردا في سياق التوازنات الجديدة، وأن الأولوية هي لعزل النهضة.
ومن الواضح أن حكومة الجملي بصيغتها الحالية لن تمر أمام البرلمان بسبب فيتوات مختلفة بما في ذلك فيتو النهضة على بعض الحقائب، وهو فيتو حمال أوجه، فهو يعطي إشارة إلى أن الحركة، التي تتقن المناورة، تضع في ذهنها حكومة الرئيس، وأنها قادرة على تعبيد الطريق أمام هذه الحكومة السحرية من خلال حجب الدعم عن حكومة يقول رئيسها المكلف إنه لن يغير أي شخص فيها قبل التصويت، وهي بذلك تنتظر إشارات مقابلة من الجبهة التي تتحرك لفرض هذه الحكومة، والمقصود بالإشارات هنا المكاسب التي تحصل عليها النهضة مقابل الدخول إلى حكومة الرئيس.
ويعطي تلويح النهضة بتعطيل حكومة الجملي رسالة طمأنة داخلية للشق المعارض لخيارات راشد الغنوشي، وهي خيارات تقوم على قيادة الحكومة بقطع النظر عن المكاسب الحزبية، ومحاولة استقطاب قيادات جديدة عن طريق الإغراءات والمواقع المتقدمة في مؤسسات الدولة، وخاصة من أبناء رجال الأعمال والشخصيات النافذة في الدولة العميقة، وهي الدوائر التي يسعى الغنوشي لاسترضائها وتبديد مخاوفها.
يمكن أن يفهم تعطيل حكومة الجملي بفيتو من النهضة تبريد الغضب الداخلي من القيادات التاريخية التي تشعر أنها باتت على الهامش في خيارات الغنوشي الحكومية، وقد يكون ذلك أيضا مقدمة للتهميش في مؤسسات الحركة التي يتم إغراقها بمنتدبين جدد ممن لا تتوفر فيهم المظلومية، وقد يكون دور هؤلاء المنتدبين مؤثرا في المؤتمر القادم في إسناد شق رئيس الحركة من البراغماتيين الجدد للسيطرة على القيادة حتى لو غادر الغنوشي رئاسة الحركة لاعتبارات قانونية أو بسبب دوره في رئاسة البرلمان.
لكن الأهم في هذا الارتباك أن النهضة، وبسبب المكابرة، وجدت نفسها معنية لوحدها بتشكيل الحكومة، وأنها قد تدفع فاتورة من شعبيتها في المستقبل خاصة أن الحكومة سيكون دورها إدارة الأزمات وليس حلها، ويمكن أن يوفر الفيتو على حكومة الجملي الفرصة أمامها للتراجع والقبول بلعبة حكومة الرئيس، التي ستجعل المسؤولية جماعية وتسحب إليها الأحزاب المحسوبة على الثورة.
ورغم المكابرة ومحاولة احتكار قيادة المشهد، فإن حكومة الرئيس كان يمكن أن توفر فرصة لا تعوض للنهضة لأنها ستعفيها من المحاسبة وتمكّنها من قيادة الحكومة من وراء الستار كونها الحزب الأول وعنده خبرة بالتسيير، وتوفر لها غطاء لأنشطة التمدد والتسلل للمؤسسات الكبرى، وهي فرصة لا يمكن أن تتوفر لها في حال حكومة التكنوقراط التي ستكون تحت أنظار الرقابة.
ويعود رفض النهضة لهذه الحكومة إلى كونها جاءت اقتراحا من حركة الشعب (قومية ناصرية) في سياق المماحكة وسحب البساط من تحت النهضة، لكن أصواتا “نهضاوية” عادت لتنظر إلى الأمر من ناحية المصلحة الحزبية مثل النائب في البرلمان وعضو مجلس الشورى ناجي الجمل.
وبعد أن شكك الجمل في حكومة الجملي “قدرتها على القيام بالإصلاحات العاجلة والضرورية للخروج من أزمتنا الاقتصادية”، اعتبر في تدوينة على فيسبوك أن ”حكومة سياسية بامتياز يختار رئيسها السيد رئيس الجمهورية بالتشاور مع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان ويشارك فيها من أراد هي أقدر على رفع التحديات الكبيرة”.
كما حمل النائب والقيادي في حركة النهضة العجمي الوريمي على حكومة التكنوقراط، التي وصفها بحكومة الضرورة، معتبرا في تصريح له أن مبادرة قيس سعيد التي أثارت غضب الغنوشي ودفعت إلى إعلان الجملي عن تشكيل حكومته “لا تحمل تعديا لا على الصلاحيات الدستورية للجملي ولا على النهضة”، وهو ما يفهم منه أنه لا يمانع في العودة إلى مربع حكومة الرئيس.
لم يبق الكثير أمام انتهاء المهلة القانونية التي منحت للجملي لتشكيل الحكومة، وفي حال اختار “قلب تونس” عدم دعمها، فإن فشلها في نيل الثقة بالبرلمان أمر مؤكد، وهو ما يعني عودة التكليف إلى الرئيس قيس سعيد ليختار شخصية وفاقية لا تكون بالضرورة من الحزب الأول، النهضة، أو الحزب الثاني، قلب تونس، وإنما شخصية تحوز على رضا أغلب الكتل البرلمانية.
وتقول المؤشرات إن رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد هو المرشح الأبرز لقيادة حكومة الرئيس، لعلاقته الجيدة مع قيس سعيد خلال الأسابيع الأخيرة، وهي علاقة سمحت للشاهد بإجراء تغييرات واسعة في عدة قطاعات بالرغم من تحذيرات النهضة واتهام قيادات منها له بإغراق المؤسسات بتعيينات موجهة سيكون دورها بالأساس تعطيل أداء أي حكومة مستقبلية.
لكن موقف النهضة، الحليف السابق، لم يعد مهما بالنسبة إلى الشاهد، الذي نجح في بناء تحالف مع حركة الشعب والتيار الديمقراطي خلال فترة المشاورات التي قادها الناشطان السياسيان جوهر بن مبارك والحبيب بوعجيلة، وظهر حزبه “تحيا تونس” في صورة الحزب المدافع عن “خيارات الثورة” وتحقيق أهدافها في العدالة الاجتماعية وخدمة المناطق الفقيرة وتوفير مواطن شغل للآلاف من العاطلين عن العمل.
ويفهم من اللقاء غير المعلن الذي جمع يوسف الشاهد بنبيل القروي، رغم الخلافات العميقة بينهما واتهام القروي للشاهد بالوقوف وراء سجنه في سياق “الحرب على الفساد”، على أنه تصويب مواقف وتهدئة متبادلة وشروط فوق الطاولة وتحتها تدفع بالقروي أولا إلى حجب دعم كتلته (38 مقعدا لحكومة الجملي)، وثانيا التهيؤ للعب دور مساند لحكومة الرئيس، من وراء الستار، مقابل مكاسب على رأسها وقف أي تتبعات قضائية بحقه، فضلا عن حصته في التركيبة الحكومية التي ستحتكم للمحاصصة المكشوفة كونها حكومة سياسية وليست حكومة تكنوقراط.
بقطع النظر عن نجاح الشاهد في الحصول على ثقة الحلفاء الجدد، فإن السؤال المهم هنا: كيف يتم تحديد برنامج حكومة الرئيس، هل المرجع التوافقات الأخيرة التي تم التوصل إليها بين “النهضة” و”التيار” و”حركة الشعب” و”تحيا تونس”، ضمن سقف “قوى الثورة”، أم سيتم تطبيق برنامج الرئيس سعيد الذي قدمه في شكل عناوين مقتضبة خلال حملته الانتخابية؟ وهل أن حكومة الرئيس ستحوز على ثقة الأطراف الاجتماعية ودوائر المال والنفوذ التي تنتظر إصلاحات دافعة للاقتصاد ورجال الأعمال وليس حكومة تفتح المجال لحرب على الفساد قد تتحول إلى تصفية حسابات؟
سيكتشف الحلفاء المحيطون بحكومة الرئيس أن لقاءهم سياسي ظرفي وأنهم لا يمتلكون مقومات تحالف حكومي حول برامج مشتركة، وأن الهدف الأول لفكرة هذه الحكومة هو إرباك النهضة ووضعها بمواجهة سعيد، فضلا عن جذب أنصار الرئيس والاستفادة من شعبيته لأحزاب أغلبيتها حصلت على مقاعدها البرلمانية بأكبر البقايا.
ونعتقد أن حكومة الرئيس لو تحولت إلى مشروع حقيقي فستثير الخلافات بين أفكار يسارية اجتماعية وأخرى ليبرالية بنفس الحدة التي أثيرت في حكومة “النفس الثوري”، فضلا عن كونها ستسلب الأحزاب المكاسب التي حققتها في المفاوضات الأولى، حيث استأثر التيار بوزارات سيادية مهمة وكان سيضع يده على هياكل وإدارات مهمة في مكافحة الفساد والوقوف على ملفات خصومه. وكان الباب مفتوحا أمام حركة الشعب و”تحيا تونس” للحصول على حقائب خدمية مؤثرة، في ظل تنازلات النهضة وتعفف ائتلاف الكرامة عن الغنيمة الحكومية.
ويقول بعض أنصار حكومة الرئيس إن هدفها هو تنفيذ برنامج الرئيس قيس سعيد الذي طرحه في حملته الانتخابية، وهو رأي وإنْ كان لا يحوز على دعم الكتل النيابية بما في ذلك تلك التي بالغت في الحفاوة بالرئيس وشعبية الرئيس مثل حركة الشعب، فإن هذا البرنامج لا يطرح حلولا اقتصادية واجتماعية تفصيلية، وهو يعزو كل الحلول إلى تغيير النظام السياسي من ديمقراطية ليبرالية تقوم على التمثيلية إلى نظام يحلم بتجربة اللجان الشعبية التي تتولى تصعيد ممثلي الشعب من الأحياء والقرى المهمشة.
وبقطع النظر عن جاذبية هذا الانقلاب الجذري لدى فئات شعبية باتت منزعجة من ديمقراطية شكلية مفرغة من أبعادها الاجتماعية، فإن تنفيذه سيأخذ وقتا طويلا وسيدفع بالبلاد إلى خسارة الوقت في الصراعات الجانبية بدل إجراء إصلاحات اقتصادية والبحث عن سبل لحلحلة أزمة البطالة، فضلا عن أن النظام الجديد قد يعيد إنتاج نفس المشهد، وهو سيطرة حركة النهضة، وممثلي الدولة العميقة، وهما القوتان الرئيسيتان على المستوى المحلي مثلما عكست الانتخابات المحلية منذ أكثر من عام.
لكن الإحراج الأكبر لحكومة الرئيس أنها لا تستطيع الانقلاب على المنظومة الاقتصادية وبناء منظومة جديدة تستجيب لأحلام الرئيس وشعارات “أحزاب الثورة”، فتونس مرتبطة بشكل كامل بآليات التمويل الدولي ونظام القروض وشروط المديونية، ولا تحتاج إلى صراعات قد تدفعها إلى خسارة التمويل الدولي وثقة الداعمين في أوروبا والولايات المتحدة.
المصدر: الدار- وكالات