الرأي

التحولات العالمية وتواضعنا المعرفي الجمعي

منتصر حمادة

نادرة هي الأقلام الفكرية المحلية (المغربية والعربية) التي تنخرط في قضايا الساحة العالمية وتواكب أحدث الإصدارات والنقاشات، وواضح أنه لا يمكن فصل هذه المعضلة عن سياقنا الحضاري بشكل عام، بمقتضى تواضع الأداء الحضاري الذي تمر منها دول المنطقة، كما تؤكدها العديد من أحداث الساحة الاستراتيجية، فالأحرى الأحداث السياسية والدينية والثقافية وغيرها.
ولو توقفنا عند الرداءة التي أصبت المنطقة في مجال التديّن، على سبيل المثال لا الحصر، يصعب حصر مؤشراتها، ولكن نتوقف عند نموذجين فقط:
ــ يتعلق النموذج الأول باستحضار طبيعية فتاوى “إرضاع الكبير” و”بول البعير” و”زواج بنت تسع السنوات” ورداءات دينية من هذه الطينة المتخلفة، وهي “فتاوى” تعطينا صورة أولية عن التردي الحضاري الذي يمارس عندنا باسم الدين، والدين براء من هذه الإساءات.
ــ ويتعلق النموذج الثاني باستحضار هذه “البدعة” سيئة الذكر التي أصبحنا نعاينها كلما تعلق الأمر برحيل إحدى الأسماء الدينية والفكرية، حيث تخرج الأصوات الدعوية والبحثية وغيرها، لتوزع صكوك الغفران، حول مصير الفقيد، كما جرى مع رحيل محمد رمضان البوطي أو محمد شحرور أو أسماء أخرى، حتى إننا نعاين ذلك عند الباحثين، من ضحايا غسيل الدماغ الذي تعرضت له المنطقة خلال العقود الأخيرة، وتمّ هو الآخر باسم “الدين”.
وفي غمرة النقاشات والسجالات القائمة عندما حول مشاريع الساحة، من قبيل الاشتغال على أعمال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وطه عبد الرحمن وحسن حنفي وفهمي جدعان وأبو يعرب المرزقي ومحمد شحرور.. إلخ، لا ضير من أن نذكر أنفسنا أنها نقاشات تهم أبناء المنطقة العربي حصراً، ولا تهم أبناء المجالات الثقافية الأسيوية أو الأمريكية وباقي المجالات الثقافية.
وليس صدفة أن أغلب المتابعات البحثية والإعلامية السائدة في الساحة الأوربية والغربية بشكل عام، حول قضايا الفكر والفلسفة والمنطق والرياضيات والعلوم الإنسانية.. إلخ، لا تتطرق لا من قريب ولا من بعيد للجديد عندنا في المنطقة، باستثناء بِضْع حالات خارج السياق، سوف نعرج على بعضها، وبيان ذلك، أن السجالات الفكرية والقضايا التي تشتغل عليها الأقلام سالفة الذكر، قضايا تجاوزها العقل الغربي المعاصر منذ مدة، وبعضها تجاوزها منذ قرون، إضافة إلى أن بعض القضايا السائدة عندنا، عبارة عن ترجمات لما يصدر عن أقلام الساحة الأوربية والغربية (من قبيل فورة الأعمال المغاربية المُخصصة لإصدارات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أو الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وغيرهم)، دون الحديث عن معضلة ثالثة، عنوانها إصرار أغب الرموز الفكرية المحلية، المغاربية والعربية، على البقاء في مقام “خارج التغطية” الفكري، في معرض الانخراط النظري والنوعي مع كوكبة المفكرين والباحثين الغربيين على هامش تناول قضايا وتحديات تهم الإنسانية جمعاء، من قبيل قضايا “الذكاء الاصطناعي” أو “ما بعد الإنسان”، ومجموعة من التحديات.
ليس شاذاً أن العدد الأخير للمجلة الأدبية الفرنسية، “ماغازين ليترير”، أي عدد يناير 2020، ــ المخصص ملفه لاستعراض لائحة الفلاسفة العشرة الأكثر تأثيراً في العالم، انطلاقاً من حجم المتابعات البحثية العالمية، والحضور الرقمي في الاقتباسات والمقتطفات ــ ألا نجد أي إسم من أسماء الساحة المغاربية والعربية، لأننا إزاء واقع لا يرتفع أساساً. وهذه معضلة مفتوحة على مآزق أخرى مسكوت عنها، من قبيل الاستفسار عن الأسماء الفكرية عندنا، المؤهلة لكي نُترجم أعمالها للخارج؟ كم عددها وما هي طبيعة الأعمال المعنية بالترجمة وأسئلة أخرى مؤرقة ليس هذا مقام التفصيل فيها.
في خضم هذا “الهدر الحضاري” المفتوح، توجد نقاط ضوء، ونتوقف في هذه المحطة الأولية عند اسمين اثنين: المفكر التونسي فتحي المسكيني، والمفكر السنغالي سليمان بشير ديان.
ــ فأما الأول، ونترك جانباً هنا اشتغاله على ترجمة بعض أمهات الكتب الفلسفية ــ من الفلسفة الألمانية بالتحديد ــ إلى اللغة العربية، ما دمنا لا زلنا في مرحلة التلقي والتفاعل والمتابعة، لنتوقف في إشارة عند دور بحثي نوعي يقوم به، لأنه يكاد يقود التيار الفكري الإقليمي الذي يشتغل على “فلسفة الدين”، ومن يرغب في التأكد من ذلك، ننصحه بقراءة عمله الأخير الذي يحمل عنوان: “الإيمان الحر أو ما بعد الملة: مباحث في فلسفة الدين”، حتى إن مقاربته للظاهرة الإلحادية في هذا العمل، تتناول ظاهرة الإلحاد في الغرب، فالأحرى تناول الإلحاد (الثقافي أو النفسي) السائد لدينا.
ــ وأما الثاني، فإنه حاضر في العديد من المتابعات البحثية والإعلامية الغربية، وهو أستاذ الفلسفة، ومدير برنامج الدكتوراه في قسم اللغة الفرنسية في جامعة كولومبيا في نيويورك، درس بالسوربون على يد لويس ألتوسير وجاك دريدا، كما درس في هارفرد، وتخصص في فلسفة الرياضيات والمنطق، مع اهتمام واسع بالإسلاميات والفلسفة السياسية والآداب الإفريقية وأسئلة الهوية، ويُعتبر أحد أهم سفراء الفلسفة الإفريقية في الولايات المتحدة، وبدرجة أقل في الساحة الأوربية، بمقتضى المركزية الغربية المهيمنة في المجال الثقافي الأوربي مقارنة مع نظيره الأمريكي. (في العدد الأخيرة لفصلية “لوبوان” الفرنسية، والمخصص للتعريف بأهم النصوص الدينية المؤسسة في الديانات الإبراهيمية والوضعية، كان سليمان بسير ديان ضمن المساهمين في الشق الخاص بالدين الإسلامي، في ما يُشبه مواجهة تيار “القراءات الحداثية للنصوص القرآنية”، والمشارك بعضه في موسوعة “قرآن المؤخرين” الصادرة مؤخراً في الساحة الفرنسية، وجاءت في حوالي 3000 صفحة، من ثلاثة أجزاء).
الإشكال هنا، أن المنطقة في حاجة إلى عشرات أو مئات من هذه الأسماء النوعية لمواكبة المستجدات الفكرية والتحديات الكونية التي تواجه الإنسان المعاصر بشكل عام، أياً كانت مرجعيته الدينية والإيديولوجية، وواضح أن القضايا الفكرية السائدة عندنا في المنطقة، لا زال أغلبها بعيداً عن التفطن إلى تلك التحديات، فالأحرى التفكير في الاشتغال عليها، وهذا هو واقعنا المعرفي الذي لا يبعث على التفاؤل، ويتطلب الكثير من الشجاعة النظرية والكد المعرفي.

زر الذهاب إلى الأعلى