باحثون ينبشون في علاقة قيم الجلال والجمال بالجماليات في الفن المعاصر
الدار/ تقارير
نظمت الوحدة العلمية للإحياء الصادرة عن الرابطة المحمدية للعلماء، مؤخرا، ملتقاها السابع عشر حول موضوع: تواشج قيم الجلال وقيم الجمال.. الفن المعاصر وسؤال الجماليات” انطلاقا من محاضرة ألقاها الأستاذ محمد الشيكر حول: “أفول الفن المعاصر أم أزمة الجماليات؟”. وذلك بمقر الرابطة المحمدية للعلماء، الرئيسي بالرباط.
واستهل الأستاذ عبد السلام طويل رئيس الوحدة العلمية للإحياء هذا الملتقى، بتوجيه الشكر للأستاذ المحاضر وللحضور الكريم، مبرزا أن الأستاذ المحاضر محمد الشيكر يعد من أبرز المهتمين بالشأن الجمالي انطلاقا من خلفية فلسفية ونظرية رصينة تجمع بين تمثل الفن في بعده الجمالي الأدبي، وفي بعده المعرفي التصوري.
بعد ذلك تناول الكلمة الأستاذ محمد الشيكر الذي تمحورت محاضرته أزمة الدرس الجمالي المعاصر، وحول ما ترتب عنها من تقويض لمتعلقاته الإستتيقية ؛ وذلك من قبيل مفهوم الفن والجمال الفني والذوق والتلقي الجمالي و ما إليها من المفاهيم ذات الصلة بالباراديغم الجمالي الحديث.
افتتح المحاضر مداخلته بربط ميلاد الإستتيقا أو الجماليات الفلسفية بالأزمنة الحديثة، بل ذهب في هذا الشأن مذهب مارتن هايدغر في القول بأن ” دخول الفن إلى دائرة الإستتيقا ” لم يكن في النهاية غير ملمح من الملامح المفصلية للحداثة. وما يميز الإستتيقا أو الجماليات الفلسفية الحديثة، في نظر محمد الشيكر، هو أنها حاولت، منذ ألكسندر بومغارتن، مرورا بكانط ووصولا إلى هيغل، أن “تخضع الحكم الجمالي لمبادئ عقلية، وأن تسمو بقواعده إلى مقام الموضوعية”. وفي هذا الإطار ميز المحاضر بين حقلي الإستتيقا وفلسفة الفن، معتبرا أن هذه الأخيرة لم تكن غير جماع من النظرات التأملية المجردة التي يصوغها الفيلسوف حول الجمال، والتي لم تكن غير جزء عارض ونافل من نسقه الفلسفي. في حين تتغيا الجماليات الفلسفية الحديثة أن تجعل من البحث في الجمال ومؤدياته إمبراطورية فلسفية قائمة الذات على حد تعبير هيغل.
وفي معرض استشكاله لهذه الإستتيقا الناشئة، يتساءل المحاضر عن قدرة الجمالية الحديثة على الانخراط في خضم الصيرورة الجذرية التي شهدتها “الفنون الجميلة”، والتي ساقتها إلى خلخلة عدد يسير من المسبقات الكلاسيكية المكرسة عن الفن والجمال الفني أو عن الذوق والتلقي الجمالي. يلاحظ محمد الشيكر أن الإستتيقا الحداثية حاولت جاهدة أن ترسم خط اللاعودة مع فلسفة الفن في لبوسها المثالي المجرد، إلا أنها عجزت في نظره عن الالتحام بالحراك الفعلي الذي عرفه الفن الحديث والمعاصر. فكانط أوقف موضوع الإستتيقا على النظر في الحكم الجمالي القبلي، فيما حصره هيغل في الاهتمام بالأعمال الفنية بما هي تعبيرات جمالية عن صيرورة تجلي الروح المطلق وتكشفه في التاريخ.في حين نأى به “شيلنغ” عن الجمال الحسي، لينصرف شطر محاولة القبض على “ماهية” العمل الفني، وبالتالي شطر “النفاذ إلى المنابع المتعالية للفن”.
على هذا النحو لم ترتد الجماليات الفلسفية الحديثة بسؤال الجمال والحكم الجمالي إلى ضرب “من المثالية التأملية” فحسب، بل أيضا شطت ونأت به عن راهن الحركة الفنية الحداثية، وفوتت على نفسها إمكانية استيعاب انعطافاتها الجمالية الجوهرية. وبذلك يقول المحاضر: “حملت الإستتيقا الحداثية نهايتها الفجائية في بدايتها التدشينية”. إذ لم تستطع الإستتيقا التي تخلقت من رحم الحداثة أن تساير الحداثة في منجزاتها التشكيلية والموسيقية والأدبية، أو أن تستوعب ثورتها على المعايير الفنية والجمالية الكلاسيكية. فهيغل الذي بلغ بالنظرية الإستتيقية منتهاها لم يستطع أن يضع يده على الإرهاصات الجنينية التي ستقود الفن للثورة على معايير التشخيص والتمثيل الميمي (المحاكي) للأشياء مع انطباعية كلود موني وإدوارد ماني وأوغست رينوار وفان جوخ. مثلما عجزت الإستتيقا مابعد الهيغلية عن استيعاب ملامح الانعطافة الجمالية الفارقة التي شهدها الوعي البصري المعاصر والتي أفضت إلى خلخلة قوانين تركيب الألوان مع التيار الوحشي، وتشويه الكتل والأحجام وتقطيعها وتشظيتها وإعادة تركيبها في علاقات وتوليفات لا أوقليدية مع التكعيبية، واعتماد المتلاشيات والقطع الجاهزة في تشكيل كتل فنية موغلة في الإثارة والغرابة مع ما يعرف مع مارسيل ديشامب.
ويؤكد محمد الشيكر أن الفن المعاصر بقدر إمعانه في الثورة على المعايير والأساليب القائمة، بقدر ما ينأى عن الدائرة الموصدة للجماليات، إلى حد أن الفن الراهن، عبر ثورته الجمالية المطردة والعارمة، لم يعد ينتفض على معاييره الجاهزة، بل أصبح ينتفض أيضا ضد كل إستتيقا فلسفية ممكنة حسب تعبير بيتر أوسبورن ” Peter Osborne”، أو غدا عنوانا على فراغ إستتيقي، إن لم يكن في الحقيقة إيذانا بأفول إمبراطورية الجماليات.
وفي تعقيبه على هذه المحاضرة القيّمة أشاد الأستاذ عبد السلام طويل لمضامينها الغنية التي جالت بالحضور الكريم عبر محطات أساسية لتطور التعقل الفلسفي للمسألة الفنية والجمالية، مبرزا أن المحاضرة طرحت قضايا في غاية الأهمية انطلاقا من استشكالات نافذة ليتساءل مع الأستاذ محمد الشيكر أنه حينما نتحدث عن الجمال والجماليات؛ نتحدث عن مفاهيم مفتاحية أساسية، نتحدث عن التجربة الشعورية، نتحدث عن التلقي ومستويات التلقي، نتحدث عن مسافة الخُلف بين لحظة الإبداع وبين لحظة التعقُّل الفلسفي أو النقدي للفن أو الإبداع بشكل عام. باعتبار أن مسافة الخُلف بين لحظة التعقُّل الفلسفي أو النظري للفن، وبين لحظة الإبداع الفني هي التي ربما تُفسّر؛ كيف أن كل من “شيلنغ” و”هايدغر”، و”هيغل” نفسه ظلوا مرتبطين باللحظة السابقة عليهم وكأن المعاصرة حجاب. ربما هذا يرتبط بهذه المسافة: ذلك أن النقد يظل مرتهنا لمسافة الخُلف هاته بحيث لا يستطيع أن يواكب الفن في لحظة تدفقه، وفي لحظة انبثاقه. ربما يشكل هذا أحد المداخل التفسيرية لهذا الأمر.
كما تساءل الأستاذ عبد السلام طويل، كذلك، عن العوامل المتحكمة في لحظة التلقي معتبرا هذه الأخيرة مسألة أساسية في عملية الجمال، في تقييم الجمال والفن بشكل عام. بحيث تشكل لحظة التلقّي، في نظره، شرطا أساسيا لتحديد درجة التمثل والإحساس بالإمتاع والجمال..
كما توقف على فكرة المحاكاة. باعتبار أن اللحظة اليونانية تمثل لحظة تأسيسية بالنسبة للعقل الإنساني بشكل عام. والمحاكاة عند أرسطو أساسية؛ إذ كان لها أثر ملحوظ في التراث العربي-الإسلامي القديم. متسائلا عن تأثير وحضور مفهوم المحاكاة في النقد المعاصر؟ هل لازالت له القيمة التي كانت له؟ أم أصبحت له دلالات أخرى؟
وأضاف في معرض تعقيبه أن عنوان الكتاب الذي أشار إليه الأستاذ المحاضر”L’Art à l’état gazeux” أوحى له بفكرة الفن في صلته بظاهرة الانفلات أو السيلان؛ بحيث يصعب القبض عليه والإمساك بتلابيبه. الأمر الذي يطرح إشكالا جوهريا بالنسبة للفن وعلاقته بالزمان؛ باعتبار أن الفن، في نهاية المطاف، هو أثر وهذا الأثر له علاقة بالذاكرة الفردية والجماعية، مثلما له علاقة بالتاريخ ولها علاقة بالحضارة.
بعد ذلك تساءل: ألا يشكل هذا إقباراً للفن أو ربما إجهاز على العناصر الجمالية في بعدها الأنطولوجي والحضاري؟
كما تطرق الأستاذ عبد السلام طويل في تعقيبه إلى علاقة الفن بالابتذال وعلاقة الفن بالخردة وبالقبح، خاصة وأن المنتجات الفنية التي تعمل على إعادة تركيب بعض المتلاشيات؛ تعطي منتوجا لا يرقى إلى مستوى الإمتاع الذي يُحدثه في المتلقي نص أو منجز فني كلاسيكي، ولكن يعطي لهذا المتلقي حالة من حالات الاندهاش والغرابة، أو الشعور بأن هناك شيئا غير عادي وغير طبيعي، يعني هناك لمسة فنية.
ليخلص إلى ما يعرف بفن الجِداريات؛ مستشهدا بمدينة أصيلة كونها مشهورة بالجداريات، التي تعاني كل سنة من ظاهرة المحو. طارحا في هذا السياق علاقة الفن المعاصر بظاهرة المحو. وكأن ظاهرة المحو بالنسبة للجداريات، في نظره، لها علاقة بأطروحة “L’Art à l’état gazeux” وكأن الفن أصبح لحظيا، وكأن الزمان بات مفككًا، وكأن الذي يُنتِج لا يفكر في الذين من قبله ولا في الذين سوف يأتون من بعده. مشدداً على ضرورة إعادة الاعتبار للعلاقة بين الفن والتاريخ، وعلاقته بالذاكرة.