العلم في زمن كورونا… والعودة إلى الأخلاق
الدار / خاص
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء، مقالا للباحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات، الأستاذ محمد الناصري بعنوان “العلم في زمن كورونا..والعودة الى الأخلاق”.
لماذا العودة إلى الأخلاق؟ وما معنى ذلك؟ يجيب عن هذين السؤالين المفكر الفرنسي أندره كونت سبونفيلفي كتابه: “هل الرأسمالية أخلاقية؟” بقوله:عندما أتحدث عن “عودة الأخلاق” أو عندما يجري الحديث عنها في وسائل الإعلام، فإن ذلك لا يعني أن الناس اليوم، صالحون أكثر مما كان عليه حال ذويهم أو أجدادهم، فالعودة إلى الأخلاق إنما تتم، جوهريا من خلال “الخطاب”، ليس لأن الناس هم حقا أكثر صلاحا، بل لأن الأخلاق غذت، أكثر فأكثر مادة لحديثهم بحيث يسعنا في الأقل الافتراض أنهم يتحدثون عنها بمقدار ما هي غائبة عن واقع السلوك البشري … فمثل هذا الأمر غير مستبعد على الإطلاق، غير أنهم يتحدثون عنها، وقد باتت عودة الأخلاق هذه إلى واجهة الخطاب المهيمن وواجهة الاهتمامات، ظاهرة اجتماعية تستحق التوقف عندها والتدقيق فيها.
وفي رصده لنفس الإشكالية يقول: محمد عابد الجابري في كتابه: “قضايا في الفكر المعاصر”:من الظواهر اللافتة للنظر في الفكر الأوربي المعاصر، وبالتبعية في الفكر العربي، الاهتمام المتزايد بمسألة الأخلاق والقيم فمنذ عقدين من السنين والأصوات ترتفع أصوات الفلاسفة والمفكرين وبعض الساسة لتطرح الناحية الخلقية والقيمية فيما يستجد على السواء، سواء في ميدان العلم أو في ميدان السياسة والاجتماع والاقتصاد.
ويرجع أسباب العودة إلى الأخلاق للتطورات العلمية التي عرفتها البيولوجيا والطب، والمعلوميات والصناعة العسكرية. حيث يشير إلى إن التقدم العلمي الهائل في ميدان البيولوجيا والهندسة الوراثية كما في ميدان المعلوماتية، فضلا عن آثار الصناعة والتكنولوجيا على البيئة الطبيعية من جهة، والخطر الذي تشكله أسلحة التدمير الشامل على البشرية كلها من جهة ثانية، إن تقدم العلم في هذه المجالات كما في غيرها قد أدى، أو من شأنه أن يؤدي إلى نتائج تتعارض على طول الخط مع القيم الاخلاقية التي تكرست منذ فجر التاريخ البشري، وفي جميع المجتمعات ولدى مختلف الأديان، والفلسفات بوصفها عنصرا جوهريا في إنسانية الإنسان، إن لم يكن العنصر الجوهري الوحيد فيها … الأمر الذي أدى إلى انبعاث التفكير في الأخلاق والقيم وتزايد الميل إلى إخضاع العلم ونتائجه لها، وبالتالي تأسيسه عليها مما سمح بالحديث عن عودة الأخلاق.
الملاحظ هو هذا الوعي الأخلاقي الخاص لدى الإنسان المعاصر، والذي تجلى في مظاهر شتى منها تقوية تدريس مواد الأخلاق وإحداث كراسي لها في المعاهد والجامعات وعقد المؤتمرات والمناظرات حول الإشكاليات الأخلاقية المستجدة، ومنها أيضا إنشاء لجن الحكماء ووضع دساتير ومواثيق أخلاقية، وتأسيس حركات إصلاحية ومنظمات إنسانية ، وكذلك فتح أبواب في علم الأخلاق غير مسبوقة ووضع نظريات فيه غير معهودة، فجرى الخوض في “أخلاقيات الحياة” و”أخلاقيات البيئة” وأخلاقيات الإعلام” و”أخلاقيات الإدارة” و”أخلاقيات الشغل” و”أخلاقيات الأعمال والمقاولة” كما اتسعت الدعوة إلى ضرورة أن يتحمل الإنسان المسؤولية إزاء كل مجالات الحياة، وأن يسارع إلى تحصين نفسه بالأخلاق اللازمة لمواجهة التلوث في الطبيعة والتسيب في التقنية والتفكك في المجتمع والفساد في السياسة والتضليل في الخبر.
إلا أنه ورغم المجهودات المبذولة في هذا الصدد، ورغم تعدد صيحات الإنذار وكثرة صفارات التحذير، التي يشترك في إطلاقها رجال الدين والفكر والسياسة والعسكريون وأهل الاقتصاد ورجال الأعمال والصناعة وفقهاء القانون والإعلاميون والمعنيون بالبيئة، فالبشرية مازالت تعاني من ترديها الأخلاقي، والأزمة في استفحال وتفاقم مستمرين، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على عجز العقل البشري، على إيجاد حل لمأزقه الوجودي الراهن الذي يهدد بقاءه واستمرارية حياة الجنس البشري على الأرض، وما كوفيد 19 إلا تحديا من التحديات التي ستعقبها تحديات أكثر إيلاما للإنسان وتهديدا لحياته لا قدر الله.
ومرد ذلك أن العقل العلمي؛ قد ألغى من حسبانه المرجعيات الدينية، فتبنت الثقافة السائدة خيار القطيعة مع الدين أو موقف الحياد، مما نتج عنه نتائج عكسية تمثلت في ظاهرةالتفكيك والعجز عن التركيب في كل من مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة. فبعد نمو العقليتين الطبيعية والعلمية في مواجهة ما هو غير طبيعي، اتجهت العقلية العلمية مزودة بطاقات النقد والتحليل إلى البحث في”ما ورائيات” كل شيء، برد كل المقولات إلى أصولها اتساقا مع منطق الحضارة الصناعية، أي تحليل كل مادة إلى أولياتها وعناصرها، وقد أفلحت الحضارة المعاصرة في ذلك وحققت إنجازات كبيرة حيث توصلت إلى ما عرف بـ “الغزو الفضائي” … ولكنها عجزتعن ذلك في الإنسان، إذ بعد إخضاعه لعملية التفكيك لم تقدر (أي الحضارة المعاصرة) على تركيب حاجياته الروحية، فعاشت هذه الحضارة مشكلة التركيب أو أزمة التركيب.
إذا علمنا أن استبعاد الدين وإلغاءه من حياة الإنسان، وإحلال الفكر المادي محله تيقنا أن الحل للخروج من المأزق الوجودي الراهن الذي يعيشه العالم لن يكون إلا بالعودة إلى قيم وأخلاق الدين؛بما هي “وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات”.
يقول رنييهدوبو العالم الفرنسي الأصل الأمريكي الجنسية، المتخصص في علم الأحياء الدقيقة، صاحب كتاب: إنسانية الإنسان: نقد علمي للحضارة المادية “ولن نستطيع تغيير أساليبنا ما لم نتبنى أخلاقا اجتماعية جديدة، بل دينا اجتماعيا جديدا، ومهما كان شكل هذا الدين الجديد، يجب أن يكون أساسه تناسق وتوافق وانسجام بين الإنسان والطبيعة بدل الميل المقهور المندفع نحو الإخضاع والسيطرة”.
وفي نفس الاتجاه يسير ألكسيس كاريل إذ يصرح في كتابه:”الإنسان ذلك المجهول” الذي تزداد قيمته الأخلاقية والعملية كلما ازدادت البشرية مكابدة وتلظيا بويلات تسلط الحضارة المادية على الوجود … يقول كاريل:” … إن الحضارة العصرية لا تلائم الإنسان كإنسان … وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة … إننا قوم تعساء لأننا ننحط أخلاقيا وعقليا … إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة ذروة النمو والتقدم، هي الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى الهمجية والوحشية أسرع من سواها … إن العلم والتكنولوجيا ليسا مسؤولين عن حالة الإنسان الراهنة، وإنما نحن المسؤولون، لأننا لم نميز بين الممنوع والمشروع … يجب علينا أن نعيد إنشاء الإنسان من جديد في تمام شخصيته، الإنسان الذي أضعفته الحياة العصرية ومقاييسها”.
لقد أجمعت أصوات عديدة على ضرورة الأوبة والرجوع إلى القيموالأخلاق والاحتماء بروحانيتها في مواجهة سلبيات الفكر المادي السائد،وسيطرات نظام العولمة المتوحشة، أملا في رد آفات الأزمـة الأخلاقية التي يكتوي العالـم بنيران آثارها السلبية.
لقد غذا موضوع أخلاقيات العلم موضوع الساعة اليوم، مع تفشي وباء كورونا، وهو لقاء حميم بين العلم والدين؛ يشترك في ذلك الساسة وخبراء الاقتصاد وفقهاء القانون ورجال الدين والاعلاميون والمعنيون بالبيئة… بهدف المعالجة الشاملة والصائبة لممارسة السلوك العلمي وقيم الممارسة العلمية.
وتعد العودة إلى الدين وقيمه العليا السبيل الأقوم إلى اتخاذ المعيار والقرار في مواقف علمية شائكة وحساسة خلقيا، بدءا من تداخل حصائل البحث العلمي مع مصالح العالم الشخصية، وانتهاء بتداخلها مع مقتضيات الأمن القومي، مرورا بتداخلها مع قدسية الحياة وحقوق الإنسان وكرامته، بالتجريب على البشر وعلى الحيوانات، أو بانتهاكات البيئة أو بالتطبيقات الراهنة بالغة الخطورة للعلوم البيولوجية والوراثة والمورثات أو الجينات، وفضاء المعلومات المفتوح…
ولا شك أن معين الأديان لا ينضب إجابة عن كل الإشكالات القيمية المعاصرة، بالنظر إلى اهتمامات الأديان، المستوعبةلكل قضايا الإنسان: المعرفة (الابستمولوجيا)، والوجود (الأنطولوجيا)، والقيمة (الأكسيولوجيا).
وإذ نؤكد على أهمية ودور الأديان في ترشيد وتصويب منظومة المعرفة والعلوم المعاصرة؛نؤكد كذلك على أن المشترك بين الأديان في هذا الاتجاه،تغليبا له على دائرة الاختلاف التاريخي التي تحكمت في تفسير النصوص وتأويلها بين مختلف الأديان.كما نؤكد كذلك على أن دائرة المشترك بين الأديان وبين نظريات المعرفةواسعة.وأن البناء المرجعي لفلسفات المعرفة على أسس دينية مشتركة يكسبهاأبعادا تقويمية إضافية،كما يحول دون كثير من أشكال الانحراف والبغي في النظريات المعرفية السائدة.ونعتقد أن تفعيل البعد الديني القيميفي المعرفة،بإمكانه أن يسهم في تطوير نفسها وتصحيح مسار المشكلات العلمية المدمرة للإنسان، والتي هي إحدى إفرازات التطور الفلسفي المادي المحض.
ليس المراد أخيرا من هذا التوجه العودة إلى فلسفات ونزعات دينية مغلقة تفيد أكثر مما تحرر، وتضر أكثر مما تنفع.بل المراد رد الاعتبار إلى الحالة الوسط السواء والمتوازنة التي ينبغي أن يكون عليها العلم والمعرفة، والتي تسهم في صوغها الأديان تسديدا وتوجيها وإرشادا إلى الأصلح وفقا لغايات ومقاصد الوجود الإنساني، وتسهم فيها كذلك العلوم والمعارف المكتسبة في كل عصر بما يحقق التطور والتنمية والتحديث لصالح الإنسان كل إنسان.
من هنا ثبت أن مفهوم العلم والمعرفة في التصور الديني مرتبطة بالقيم الخادمة للإنسان، والتي تعينه على أداء مهمته الاستخلافية على أكمل وجه وأتم صورة، إذ المعرفة الحقة في بحسب التصور الديني هي المعرفة، التي تعرف الإنسان بذاته وتكشف له حقيقته الإنسانية. وكل معرفة، لا ترفع من قيمة الإنسان وتعلي من شأنه، وتحفظ كرامته، وتصون آدميته، فهي معرفة ناقصة غير كاملة، ضارة غير نافعة.