الحَجْرُ الصِّحِّي و التَّحَرُّزِ من الوَبَاء من خلال نص تراثي نفيس للعلامة أبي جعفر الأندلسي
الدار / خاص
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء، مقالا للدكتور عبد اللطيف الجيلاني، رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة يستعرض فيه أهمية الحَجْرُ الصِّحِّي في التَّحَرُّزِ من الوَبَاء بالرجوع الى نص نفيس من كلام الأستاذ الفقيه المقرئ المؤرخ الأديب الطبيب أبي جعفر أحمد بن علي الأنصاري المريي الأندلسي المعروف بابن خاتمة.
وهذا نص المقال:
هذا نصّ نفيس من كلام الأستاذ الفقيه المقرئ المؤرخ الأديب الطبيب أبي جعفر أحمد بن علي الأنصاري المريي الأندلسي المعروف بابن خاتمة(ت بعد770هـ)؛ انتقيته من كتابه «تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد»، ومضمونه هو حثّ الناس على التحفظ من الوباء، والتحرز من ملامسة المريض ولباسه وفراشه، ومنع الصحيح الذي كان في موضع الوباء من دخول بلد آخر. وكان صاحب هذا النصّ الأستاذ أبو جعفر ابن خَاتِمَة(1) قد شـهد ظهور وباء الطاعون، أو الوباء الأعظم الذي سمّاه الأروبيون الطاعون الأسود (Peste noire la)، الذي اجتاح الصين ومعظم أقطار قارَّة آسيا، ثم تفشّى في بلدان كثيرة حتى بلغ سواحل البحر الأبيض المتوسط، فتغلغل في عدد من المدن؛ حتى وصل مدينة ألمرية بالساحل الجنوبي الشرقي من الأندلس سنة 749هـ/1348م، ففتك بالآلاف من أهلها؛ ومنهم شقيق ـ ابن خاتمة ـ العالم الفقيه الأديب أبو القاسم محمد(2)؛ مما دفعه إلى تأليف كتابه المذكور؛ يصف فيه حقيقة الطاعون، وأسباب ظهوره، وسرعة انتشاره، وكيفية التحفظ والاحتراز منه، إلى غيرها من المباحث الفقهية والطبية التي عالجها بنظر ثاقب، وفهم سديد، ومن دُرَر كلامه في هذا الموضوع اخترنا لكم النصّ الآتي:
قال أبو جعفر ابن خاتمة المَرِيِّي: «الظّاهر الذي لا خَفَاءَ به، ولا غِطَاءَ عليه؛ أنّ هذا الدّاء يَسْرِي شرّه، ويتعدّى ضُرُّه؛ شهدت بذلك العادة، وأحكمته التجربة؛ فمَا من صحيحٍ يُلابِسُ مريضا، ويُطِيلُ ملابسته في هذا الحادث؛ إلاّ وتتطرّق إليه آفته، ويُصيبه مثل مرضه، عادةً غالبةً أجراها الله تعالى، والفعل في الأول والثاني للحقّ جلّ جلاله؛ خالقُ كل شيءللتوليد الذي يذهب إليه أهل الضّلال، وإبطالا للعدوى التي كانت تعتقدها العرب في الجاهلية، وإعلانا بالحقّ الذي قام عليه شاهد الوجود….
وذلك أنّ أصل هذا الحادث هوتغيّر الهواء واستحالته إلى طبيعة ثانية…، ولا شيء أعظم تغيّرا، و استحالة إلى التعفن والفساد من الأبخرة التي تنفصل عن المرضى الذين نزل بهم هذا الدّاء، ولا سيما ما خرج منها مع أنفاسهم عند استحكام التعفن والفساد في أبدانهم وأرواحهم، وذلك عند الموت؛ فإنها أبخرة رديئة متعفنة سُمّية لا يستنشقها أحدٌ ممن يُلاَبِسُهُم، ويُدَاوِمُ على ذلك إلا أثّرت فيه.
وإِصَابَةُ مثل ذلك المرض على قدر كمال استعداده، وسرعة انفعاله، فرُبّ شخص كامل الاستعداد أثّرت فيه على بُطء بمقدار ما في طبيعته من سرعة الانفعال، بمقدار ما في طبيعته من سرعة الانفعال، وقوّة المدافعة، وعلى حسب ما يتناول من غذاء موافق أو مخالف، إلى غير ذلك من المُرَجِّحَات، ورُبَّ شخصٍ عَرِيٍّ عن الاستعداد بالجملة لا تأثير لها فيه، وذلك نادرٌ مع دوام الملابسة، وطول المساكنة؛ على ما أعطته التجربة، وجلاّه التأمل والاعتبار، وذلك أن أبخرة المرضى المتعفنة الخارجة مع أنفاسهم إذا بلغت قلب مستنشقها ورئته مع الهواء الذي يستنشقه فإنها تتشبث بهما للمناسبة بين محلّ خروجها، ومحل ورودها، وتؤثر هناك بما في طبيعتها أن تفعل بين التعفن والفساد، هذا أن لو وردت على مَحَلٍّ عَرِيٍّ عن الاستعداد، كيف والاستعداد موجود من قبل تغير الهواء في كلّ إنسان يتنفس فيه؛ لكن يقع التفاوت كما قرّرنا بكماله وتقصيره.
وكما أن الضّرر يحصل من تلقي أنفاسهم؛ فكذلك يحصل من الأبخرة المتصعدة من أبدانهم؛ وإن كانت دون ذلك في التأثير، وكذلك من استعمال ملابسهم وفرشهم التي تقلّبوا فيها زَمَنَ مرضهم؛ ذلك ما شهد له العلم والتجربة. ولقد شَهِدْتُ أَهْلَ سوق الخِلَق بالمَرِيَة الذين يبتاعون بها ملابس الموتى وفُرُشَهُم مات أكثرهم، ولم يسلم منهم، ولا من الذين خَلَفُوهُمْ إلا الأقلّ، وغيرهم من أرباب الأسواق؛ حَالُهُمْ كحال سائر الناس.
واطّلعتُ من حال البلدان الذين حَرَصَ أهلها على أن لا يدخل عليهم أَحَدٌ من بلاد الوباء، وحافظوا على ذلك، أن استصحبوا السلامة زمانا؛ حتى غلبوا على ذلك، وإن أكثر أهل الحصون التي تلي المرية، ونزل بها هذا الحادث ليؤرخون زمان نزوله بهم بقدوم فلان أو فلانة عليهم من بلاد الوباء، ومَوْتِهِ بين أظهرهم، ولهم في التَّحَفُّظِ من ذلك والتورّط فيه حكاياتٌ تواترت بانتشارها؛ فلا معنى لإنكارها» (3).