توفي الربان، وتم القبض على الجاني الذي لوحظ أنه كان في حالة، أقل ما يقال عنها، إنها غير طبيعية. لم تكن لهذا الشخص، والذي كان عائدا من منتجع صيفي بعد قضاء عطلته، أي علاقة بأي تنظيم إرهابي أو راديكالي. كما لا يشهد سجله بأي تصرف عدواني أو إجرامي سابق.
وهنا يبدأ اللغز، الذي سرعان ما سيزداد تعقيدا فور إبعاد فرضية العدوان الإرهابي، فيما يشبه التحقيقات البوليسية لـ Hercule Poirot نجم الاستقصاء الإجرامي لـ”ملكة الجريمة” Agatha Christie.
إنه ليس مشهدا من فلم الآكشن أو الإثارة كما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان، وإنما أحداث واقعية كان مسرحها درج مطار أوكسير الفرنسي صيف يوليوز 2003.
بعد إخضاعه لفحوصات طبية تبين أن الجاني، الذي تسبب في قتل ربان الطائرة، كان يحمل أعراض الإصابة بفيروس غير معروف. دخلت الخلية العلمية والمصالح الطبية المختصة في سباق مع الزمن لاحتواء الوضع. وُضِعَ الركاب البالغ عددهم 133 في حجر صحي. الحصيلة الآنية: 3 موتى (الربان، مساعد الربان، والشخص الذي أجهز على الربان والذي يبدو أنه حامل للفيروس)، شخصان حالتهما حرجة، و17 أصيبوا بجروح. المشهد لا يَبْعَثُ على الارتياح.
وتزداد الإثارة والغموض. الكل يترقب نتائج التحاليل الطبية بعد تشريح الجثث وأخذ عينات من المصابين،. بعدها يأتي الخبر اليقين. إنه فيروس H1Z1: فيروس هَجِينٌ يجمع بين سلالة من الأنفلونزا ونُمَيْط من داء السعار (أو داء الكلب la rage). وهو ما يفسر السلوك العدواني الذي أبان عنه الركاب في الطائرة حيث عَمَدُوا إلى مهاجمة بعضهم البعض. فيروس يتميز بفترة حضانة قصيرة لا تتعدى بِضْعَ ساعات حتى تظهر الأعراض. مكون الأنفلونزا داخل تركيبة الفيروس كان عاملا حاسما في إيقاع انتشار العدوى وفي سرعة فَتْكِهِ المرعبة.
لكن ما سِرُ هذا الفيروس؟ كيف نشأ؟ ولماذا أصاب هؤلاء المسافرين بالضبط؟ وهنا تنطلق فصول قصة مريبة وغامضة.
سارعت التحقيقات المكثفة الأحداث لِفَكِ طلاسيم لغز أرخى بضلاله على الساحة. مُنِعَتِ الصحافة من التصوير والتعليق، وطُلِبَ منها التَكَتُمِ على الأمر بذريعة تلافي عرقلة سير البحث والتحقيق. وهو ما تمت الاستجابة له في دولة اسمها فرنسا.
سَبْعُ ساعات مرت على هبوط الطائرة الموبوءة. تعقب المحققون خيوط إقلاع الرحلة ليكتشفوا أن الركاب المصابين هم سياح عائدون من نفس المخيم الصيفي. وهنا سيصادف المحققون أولى خيوط اللُغْز. صراخ ورصاص وفوضى في محيط المنتجع. أفراد حالاتهم غير طبيعية يطلقون النار عشوائيا وفي جميع الاتجاهات. اضطر الأمنيون للتدخل. وبعد تبادل للنار ووقوع قتلى، تمت السيطرة على الوضع. ثم إجلاء جثت الضحايا، وإخلاء المنتجع لتنطلق الأبحاث.
حطت خلية أزمة الرحال بالمخيم، وباشرت عملها لكشف اللغز. وبعد مرور خمسة أيام، وبينما التحقيقات جارية، استشعرت آليات رجال الأمن، عن طريق الصدفة، صوتا خافتا في مكان غير محدد داخل المخيم. ومَرةً أخرى، يقف الجميع مشدوها محبوس الأنفاس. ما مصدر ومكان هذا الصوت؟ سارع المحققون إلى فحص تصاميم المنتجع، ليهتدوا إلى قبو تحت المسبح. وهنا المفاجأة: شخصان مختبئان في ما يُشْبِهُ غرفة قيادة: شاشات، كاميرات ومعدات للمراقبة.
لم يعد هناك مجال للشك، عادت فرضية العدوان الإرهابي لتطفو على السطح. لكن بصيغة “الهجوم الجرثومي” Attaque Bactériologique. كيف؟
بعد التحقيق مع المعتقلين، تبين أنهما مهندسان كيماويان يشتغلان في واحد من أكبر مختبرات الأبحاث بفرنسا. دخلوا إلى المنتجع خِلْسَةً وجعلوا منه حقل تجارب بحيث قضوا ثلاثة أسابيع مختبئين في مكان سري يتعقبان تطور الفيروس وأعراضه على السياح الأبرياء. هؤلاء السياح تحولوا بفعل الفيروس إلى وحوش ضارية متنافرة لا يَرْوِي ظمأها إلا دماء ضحاياها.
السؤال: لماذا المنتجع؟ لأنه كان يأوي سياحا من 27 جنسية أجنبية مختلفة من أوروبا وإفريقيا وأمريكا. وبِعَودَةِ هؤلاء إلى ديارهم يصبح العالم أمام جائحة يصعب التنبؤ بعواقبها.
أصبح فيروس H1Z1 من صنع الإنسان بما لا يقبل الجدل، وأصبحت الفرضية يقينا. لكن من يقف وراء هذا العمل الإرهابي الشنيع؟ من له المصلحة في تمويل مشروع في الهندسة الحيوية من أجل حرب جرثومية تروم القضاء على البشرية؟ من يقف وراء حرب صامتة، خفية، متسترة ومدمرة.
أُغْلِقَ الملف واعتبرته وزارة الدفاع الفرنسية قضية سرية. ولحدود الساعة لم يُكْشَفِ عن وجه من كان يقف وراء هذا الهجوم. فقدت التحقيقات حماسها صدفة. وخفتت سرعة إيقاعها فجأة. ولم يتسرب من خلال تقاريرها سوى خَبَرُ تحويلات مالية مهمة في حساب بنكي للمهندسين الكيماويين، ليسدل الستار عن الملف وتُحْفَظَ القضية.
اعْتُبِرَ الحادث قضية دولة وتم التكتم عنها. ولم يظهر عبر أعمدة الإعلام ولا في تقارير وروبورتاجات الشاشة أدنى أثر لهذه الواقعة. كل ما تلا الحادث هو بلاغ حول موجة عدوى وباء، وإعلان عن تدمير رُزْمَة من مختبرات الأبحاث السرية.
لنعد إلى السنة التي شَهِدَت أطوار هذا المسلسل المرعب. إنها سنة 2003. وهي نفس السنة التي شهد فيها العالم عدوى لم يكن في الإمكان التكتم عنها هذه المرة. إنه فيروس المتلازمة التنفسية الحادة أو ما يعرف بـ SARS والذي خَلَفَ آلاف القتلى. فهل تَزَامُنُ فيروس H1Z1 وSARS وليد الصدفة؟ لنترك الجواب لفائدة الشك (le bénéfice du doute) كما يحلو القول عند الفرنسيين.
كيف ما كان الحال، لنترك الماضي، ولنعد إلى الحاضر. روايات متعددة تتحدث عن منشأ “كوفيد 19” استنادا إلى نظرية المؤامرة. أبرزها فرضية تَزْعُمُ أن مختبرات بحث سرية في الصين أو غيرها قد صنعت هذا الفيروس الذي ربما خرج عن السيطرة، أو تم إخراجه بشكل مفتعل. أو ربما استطاع الباحثون تعديل فيروسات لإنتاج “كوفيد 19” في مختبراتهم السرية.
الرد جاء سريعا من مجموعة من الباحثين، الذين يدحضون هذه الفرضية. باعتبار أن الفيروس من أصل حيواني. ولو كانت هناك نِيَةٌ لصناعة سلاح بيولوجي أو استحداث “كوفيد 19” لَتَم الاشتغال على سلالة فيروس موجود في الطبيعة أصلا. مؤكدين أنه ليس بالأمر المعقد تعديل فيروس ليصبح أكثر سرعة في إصابة الناس بالعدوى، وبفترة أطول للحضانة وبأعراض غير واضحة وبنسبة فَتْكٍ أعلى.
قبل سبع عشرة سنة، أي سنة 2003، أصدر عالم الفيزياء والكونيات البريطاني Martin Rees، كتابا بعنوان “ساعتنا الأخيرة” (Our Last Hour)، توقع بل وحذر من كارثة ستهز العالم جَرَاءَ خطأ بيولوجي سيعصف بحياة مليون شخص.
وقائع، قراءات وأطروحات تختلف باختلاف الزمان، وتجتمع في الفتك بالإنسان. افتراضات أثبتها الزمان، وكَتَمَهَا الإنسان. فهل سيبوح الإنسان غدا بما كتمه الزمان سَلَفًا؟