الدين والحياةسلايدر

مدارات رمضانية يكتبها للدار منتصر حمادة

أزمة "كورونا" والمراجعات المتوقعة في الخطاب الديني والفلسفي

منتصر حمادة

من كان يتخيل أن فيروس عابر ضمن لائحة عريضة من الفيروسات والميكروبات، ستكون له كل هذه التداعيات على العالم بأسره، وفي شتى الحقول، السياسية والاقتصادية والدينية والفلسفية وغيرها.

بل إن مجرد إحصاء لائحة الدروس الخاصة بالتفاعل العالمي مع تفشي وباء “كورونا”، يُعتبر معضلة حقيقية، فالأحرى الاشتغال على مقتضيات هذه التحديات، سواء تعلق الأمر بالتحديات الخاصة بدول المنطقة في سياق تدبيرها لمجموعة من القطاعات الحيوية، وخاصة قطاعات الصحة والتعليم، أو كانت خاصة بدول المعمور، وتهم على سبيل المثال لا الحصر، أداء عدة دول أوربية، لم يتوقع مواطنوها أن يكون متواضعاً إلى هذه الدرجة، كما جرى مع الحالة الإيطالية، أو أداء تكتلات إقليمية برمتها، كما هو الحال مع الاتحاد الأوربي الذي بقي عاجزاً في بداية الأزمة عن متابعة الوضع بشكل قاري، وعاجزاً حتى عن مساندة إيطاليا في هذه المحنة، وأمثلة أخرى سيكون لها ما بعدها، في حال تجاوز الأزمة، بعد بضعة أشهر.

لنتوقف عند عناوين بعض الظواهر التي نعاين في خطاب وأداء شعوب المنطقة العربية، على هامش التفاعل الجمعي مع انتشار الوباء سالف الذكر:

هناك انتظارات عالمية موجهة إلى المختبرات الطبية بخصوص اكتشاف علاج شافي ولقاحات ضد الفيروس، إلى درجة أن الرأي العام العالمي ينتظر الجديد الذي يصدر عن هذه المختبرات أكثر من الجديد الذي يصدر عن فاعل سياسي أو ديني أو ثقافي.. إلخ.

هناك أيضاً عودة الديني عبر بوابة اللجوء إلى الدعاء، سواء لدى أتباع الديانات الإبراهيمية أو لدى أتباع الديانات الوضعية، ولو إن هذه العودة لا تخفي الوجه الآخر للعملة الذي سنتوقف عنده أيضاً في هذه المقال، أي تورط دعاة في ترويج خطاب ديني خارج السياق إن لم يكن خارج التاريخ.

من الملاحظات كذلك، فورة عالمية في خطاب المشترك الإنساني، بل عاينا نشر تدوينات في الساحة الرقمية العربية، تتضمن الدعاء بأن تنتصر الإنسانية جمعاء على هذا الوباء، حيث تتجاوز التدوينات سقف الدعاء لصالح ساكنة الدولة الوطنية المعنية، أو مجتمعات الوطن العربي أو حتى شعوب العالم الإسلامي، وإنما تدعو للمشترك الإنساني.

وبالمحصلة، يبدو هذا الوباء أشبه باختبار عالمي مفتوح، ومن الصعب إحصاء دروسه، لأننا لم نتجاوز الاختبار بشكل نهائي، ولكن مؤكد أن هناك عدة خلاصات قاسية تتطلب إعادة نظر عالمية، تهم العديد من الأفكار والسياسات، سواء تعلق الأمر بالسياسات المحلية الخاصة بدولة ما، أو السياسات العالمية، ذات الصلة بالرأسمالية والليبرالية وما جاور هذا الثنائي الذي يتحكم في أداء أغلب بلدان العالم.

من بين الدروس الخاصة بنا نحن في المنطقة العربية، نجد مجموعة من المفاجآت التي كان علينا انتظار قدوم هذا الوباء، وتأمل تفاعلنا عقلنا الجمعي معه، حتى ننتبه إليها، ونتوقف في هذا السياق عند مجالين اثنين على الأقل:

ــ يهم الأول المجال الفكري العربي، حيث اتضحت مرة أخرى، أن قضايا اشتغال أغلب المفكرين والباحثين في الفلسفة والعلوم الإنسانية، لا زالوا يشتغلون في قضايا تجازها الزمن البحثي العالمي، وبالنتيجة، سيجد أغلب هؤلاء، صعوبات جمة في حال الانخراط البحثي للتفاعل التأملي مع المخلفات النظرية التي يتسبب فيها وباء “كورونا”، ونحن بالكاد في أولى محطات الأزمة، فالأحرى ما ستكشف عنه الأسابيع والأشهر القادمة.

ويكفي أن نستحضر في هذا السياق، الخصاص النظري الكبير الذي تعاني منه الأعمال الفكرية العربية التي تشتغل على خطاب المشترك الإنساني، وحتى الكتاب الأخير للمفكر التونسي فتحي المسكيني، الذي يفتح باباً إبداعياً نوعياً في الموضوع، تعرض منذ الآن للشيطنة، كما نقرأ في تفاعلات العديد من الأقلام البحثية.

بمعنى آخر، خطاب المشترك الإنساني السائد في مواقع التواصل الاجتماعي المحلي والإقليمي، يبقى متقدماً على أدبيات المشترك الإنساني للأقلام البحثية العربية، من فرط تعرض المشهد البحثي لعدة تشوهات نظرية خلال العقود الأخيرة، كان آخرها تشوهات إيديولوجية، مادية ودينية، ضمن تشوهات أخرى.

ــ أما المجال الثاني، فيتعلق بالخطاب الديني عندنا في الساحة العربية والإسلامية، من نواكشوط إلى جاكارتا، مروراً بالعديد من النماذج المحلية والإقليمية، على هامش التفاعل الديني مع معضلة إغلاق المساجد في هذه الظرفية، لاعتبارات مقاصدية لا تحتاج إلى نشر مدونة ابن كثير والقرطبي حتى نقنع بها الرأي العام، بدليل صدور فتاوى عن أغلب المؤسسات الدينية في هذا السياق، من قبيل فتوى مؤسسة الأزهر الشريف في مصر، أو المجلس العلمي الأعلى في المغرب وباقي المؤسسات الدينية المعتبرة.

ففي موريتانيا مثلاً، أدلى الداعية محمد الحسن ولد الددو برأي جاء فيها أن “المساجد لا تعطل فهي أحب البقاع إلى الله، وفيها بركات وخيرات ودفع، ولها عُمار من الملائكة الكرام، وهم يجلسون على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول”، وذهب داعية موريتاني آخر، وإسمه أحمد بن الكوري العلوي الشنقيطي، في معرض الدفاع عن إبقاء المساجد مفتوحة، رغم انتشار الوباء، مستشهداً بعشرة أمثلة من الحقبة النبوية وحقبة الصحابة، ذات صلة بالتفاعل مع الأوبئة، وتصب خلاصات الأمثلة في “الاعتراض الشرعي” على قرارات إغلاق المساجد مؤقتاً في انتظار مرور تجاوز الوباء.

بل وصل الأمر عندنا في المغرب، إلى صدور شريط صوتي للداعية “أبو النعيم”، يتهم فيه الدولة والمغرب بأننا انتقلنا من مقام “دار الإسلام” إلى مقام “دار الحرب” بسبب قرار إغلاق المساجد، قبل أن تتدخل السلطات الأمنية لكي تعتقل المعني ويتابع قضائياً في ظرفية مجتمعية حساسة بسبب قلاقل انتشار الوباء.

أما في ماليزيا، فقد اتضح أن الحدث الذي احتضنه مسجد كبير في ضواحي العاصمة كوالالمبور، والذي اجتمع فيه مريدو جماعة التبليغ، في لقاء عرف حضور حوالي 16000 مريد من الجماعة الدعوية، بين نهاية شهر فبراير ومطلع مارس لمدة ثلاث أيام، أفضى إلى معاينة 8776 مريد، تأكد أن منهم 338 تعرضوا للعدوى.

هذا غيض من فيض يُسلط القليل من الضوء على بعض أعطاب الخطاب الديني السائد عندنا في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وهو عطب يغذي مرة أخرى، وجاهة الدعوات التي تصدر منذ زمن محمد عبده والطهطاوي، وعنوانها تجديد الخطاب الديني، وليس صدفة أن الأفق النظري والإصلاحي للعديد من هؤلاء الدعاة، وأغلبهم من أتباع الإيديولوجيات الدينية، يبقى متواضعاً مقارنة مع الأفق النظري والإصلاحي للإمام محمد عبده وأمثاله، وهذه لوحدها معضلة تكشف حجم التحديات النظرية المرتبطة بالخطاب الديني عند أتباع هذه الجماعات والإيديولوجيات.

توقفنا هنا عند محطة أولية مع نسبة متواضعة من المراجعات التي تنتظرنا جميعاً، سواء في المنطقة العربية أو في العالم الإسلامي، فالأحرى المراجعات الكونية التي تهم جميع القطاعات الحيوية، لاعتبار بَدَهي، مفاده أن ما قبل هذه الأزمة شيء، وما بعدها شيء آخر، بل إن تداعيات ومقتضيات مرحلة ما بعد “منعطف كورونا”، تتجاوز تداعيات ومقتضيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالأحرى سقوط جدار برلين أو اعتداءات نيويورك وواشنطن، وهذا ما أكد عليه الرئيس الأمريكي نفسه في سادس ماي الجاري، والمأمول عالمياً، أن ينخرط الجميع في مراجعات كانت في مقام اللامفكر فيه، والجميع هنا إحالة على أهل السياسة والاقتصاد والفكر والدين وغيرهم كثير.

 

زر الذهاب إلى الأعلى