بقلم : يونس التايب
ديناميكية انتشار فيروس كورونا مستمرة ولم تتراجع ببلادنا. هذه هي الحقيقة التي لا يجب أن يخفيها عنا واقع تراجع حالات الوفيات خلال الأيام القليلة الماضية. فإذا كان صحيحا أنه لم تسجل أية حالة وفاة، بين يوم أمس السبت و اليوم الأحد 17 ماي، مثلا، إلا أنه في المقابل تم تسجيل 129 حالة إصابة جديدة بالعدوى تم تشخيصها في عدة جهات، مع احتفاظ مدينة الدار البيضاء بريادتها في هذا الباب.
والحقيقة الأخرى هي أنه ليس لهذا النشاط الوبائي من سبب رئيسي آخر سوى استمرار الاختلاط بين الناس بدون وقاية، وعدم الالتزام بإجراءات الحجر الصحي، و عدم المكوث في البيوت كما طلبت ذلك السلطات العمومية. وقد عاينت وسائل الإعلام الإلكترونية، كيف أن التجمعات التجارية تمتلئ بشكل لا يحترم الإجراءات الوقائية، وفي بعض الأحياء يخرج الناس ولو ليس لديهم ما يفعلونه في الخارج، في مشاهد تبدو واضحة للعيان في الشارع العام. و للأسف، لاحظنا كيف أن حتى من هم ليسوا في حالة ضيق اجتماعي ومادي، وليسوا مضطرين للخروج، ظلوا يخرجون للشوارع بلا هدف، و كيف أن شبابا يواظبون على لعب كرة القدم في الأزقة بدون حرج.
ما العمل إذن أمام هذا الوضع؟ في رأيي، لا حل سوى أن يتقرر تمديد حالة الطوارئ الصحية على الأقل لمدة عشرين يوما إضافية، مع رفع درجة الشدة في المراقبة و الزجر بكل الوسائل التي يتيحها القانون. ثم بعد ذلك يمكن النظر في إمكانية رفع الحجر الصحي بالتدريج، مع استمرار إقفال المقاهي والمطاعم و دور السينما و كل أماكن التجمعات الشعبية، ومنع السفر و التنقل بين المدن إلا لشاحنات مواد التموين، و استمرار منع استئناف البطولات الرياضية بالجمهور.
كما يجب اعتماد نظام التداول على الحضور بالنسبة لموظفي الإدارات والمؤسسات العمومية قصد تخفيف التكدس في المكاتب، و استمرار اعتماد “العمل عن بعد” في عدة قطاعات اقتصادية تتيح طبيعة النشاط الاقتصادي فيها ذلك، و تكثيف عمليات التعقيم في مرافق العمل بشكل جدي. وعلينا أن ننتظر نتائج مراقبة الحالة الوبائية، مع تكثيف عمليات إجراء التحاليل، خاصة في البؤر البارزة و في المناطق الصناعية. وإذا ما لوحظ عودة لارتفاع غير عادي لحالات العدوى، على السلطات العمومية المختصة إقرار فرض حالة الطوارئ الصحية و الحجر الصحي، مرة أخرى، لمدة 15 يوما، ثم رفعها إذا تحسنت المؤشرات الوبائية.
أظن أن علينا ربما قبول فكرة إقرار العودة للحجر الصحي كلما فشلنا في محاصرة انتشار العدوى. فرغم الكلفة الاقتصادية المرهقة لهذه الوضعية، و طالما لم يرق الوعي المجتمعي بدرجات كبيرة على سلم احترام الإجراءات الاحترازية و الوقائية ضد الفيروس، ليس هنالك من حل آخر غير التعاطي مع حالة الحجر الصحي كحاجز دفاعي نحتمي به لمدة 15 يوما كلما ضغط الوباء علينا. غير هذا يعني أن علينا انتظار أرقام ضحايا ومصابين فوق ما يمكن أن يستوعبه نظامنا الصحي رغم المجهودات المبذولة، و فوق ما يمكن أن يتحمله وعينا الجماعي.
وهنا، يجب الإعتراف أن نساء و رجال الإدارة الترابية والأمن الوطني والقوات المساعدة و الدرك الملكي و القوات المسلحة الملكية بذلوا مجهودات متميزة، سواء في التواصل مع المواطنين في بدايات الأزمة، أو في ضبط التحرك في المجال بشكل عام. و لأننا لسنا في حالة طوارئ كتلك التي تكون في الحروب، حيث يتيح آنذاك القانون إجراءات أخرى أكثر شدة، أظن أنه لا يمكن أن نراهم يفعلون أكثر مما يتم فعله إلى حدود الساعة، اللهم بعض الجرعات الإضافية من الشدة في التعامل مع المخالفين.
و يجب الإعتراف أن بعض التجاوزات التي تم تسجيلها هنا أو هناك، و التي حاولت بعض الأصوات أن تستنتج منها ما لا يمكن موضوعيا تعميمه، هي حالات معزولة و سلوكات أفراد تمت من أثر ضغط الانفعالات و تعب المداومة المستمرة. بطبيعة الحال ذلك لا يجيز القبول بها، ولكن هي عموما لا تؤثر في الصورة العامة لأداء تلك المصالح التي شهد لها كل المغاربة بما يجعلها تستحق منا الثناء والتنويه. وقد كان حريا بنا أن نعينها على تأدية مهامها عبر التزام بيوتنا بشكل أكبر، ولو فعلنا ذلك لكنا اليوم نتطلع ليوم عيد الفطر المبارك في أجواء طبيعية لن نعيشها، للأسف، بسبب استهتار جزء من الناس بما نحن فيه.
ومهما يكن من قرارات ستعلن عنها الحكومة خلال اليومين المقبلين، لا شك أن نجاحنا النسبي في مجموعة أمور في تدبير هذه الأزمة هو شيء يجب أن نسجله ونتواصل بشأنه ونبتهج له، حتى يبقى الأمل و الحماس و التعبئة. كما أن فشلنا النسبي في تدبير بعض الجوانب، هو أيضا واقع يجب الإقرار به والتعاطي معه بغرض تصحيحه كي لا يستمر تأثيره السلبي خلال الأسابيع المقبلة. فالمعركة طويلة و نحتاج كل طاقاتنا لنستمر في الصمود.
ولعل أول ما أعتقد أنه يحتاج مراجعة جذرية هو التواصل العمومي بشأن الجائحة الوبائية لكورونا. كل المؤشرات تدل على أن الرسالة التواصلية التوعوية لم تصل بالقوة اللازمة للجميع، الشيء الذي يفسر ربما حالات التراخي التي نراها في سلوك عدد من الناس. و هنا يجب أن نعي أنه من العقل ومن الواجب أن نعيد فورا الاعتبار لكل المفكرين و نجعل أصحاب الرأي الحقيقيين و حملة العلم بكل فروعه، يتكلمون ويحتلون المشهد الإعلامي، العمومي و الخاص، عوض بعض “الرموز” التي تم الاعتماد عليها لإيصال رسائل التوعية للمجتمع، وتبين أنهم لا يؤثرون بشكل هادف و بناء، ولا يمكنهم أن يحموا المجتمع في زمن الأزمة، ولا يمكن أن يعوضوا في وجدان الناس، أثر خطاب الصدق وإبداع التميز والفكر الأصيل والكلمة الهادفة.
لا شك أن في بلادنا مفكرون و علماء اجتماع، و فلاسفة وأدباء، وعلماء دين، ومتخصصون في الاقتصاد والتنمية و التهيئة المجالية و التدبير والسياسات العمومية، معترف لهم برسوخ حضورهم العلمي و المعرفي و نزاهتهم الأخلاقية، ولعدد منهم إسهاماتهم وكتاباتهم التي قرأناها و نعود إليها لنستوعب الظواهر المستجدة بعمق مفاهيمي رصين. و أعتقد أنه لامعنى في أن يظل هؤلاء خارج التداول اليومي لموضوع الجائحة الوبائية، و غير مستمع (بضم الميم!) لرأيهم في نقاش ما يلهب تفكير المواطنين في الواقع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وسماع تفاعلهم مع كل ذلك وتأطيره بالقدر الكافي و المساهمة في نشر التوعية ودعوة الناس إلى تحمل مسؤولياتهم الوطنية والأخلاقية تجاه الوطن.
أما ثاني ما نحتاج إليه، خلال الأيام المقبلة، هو أن نرفع جودة تدبير إجراءات الدعم الاجتماعي الذي قررته الدولة، سواء منها الإعانات المالية أو الغذائية العينية، و نعمل كي تصل بسرعة لمستحقيها و يستفيد منها كل من تتوفر فيهم الشروط، مع الحرص على أن تكون الاستفادة مضبوطة حتى يتم تغطية كل الاحتياجات، في كل المناطق، ويساهم ذلك في التخفيف عن المحتاجين.
بدون شك ستكون المرحلة القليلة القادمة حساسة و حاسمة. و علينا أن نجدد العهد على أن يعين بعضنا البعض، و أن نلتزم بتوجيهات السلطات العمومية، و نصبر على ضغط هذه المرحلة، حتى تمر هذه الأزمة الوبائية الخطيرة بأخف الأضرار على بلادنا. فالمرحلة تحتاج من مجتمعنا كل الطاقة الإيجابية و كل التعبئة الوطنية للانتصار في مواجهة تحديات الوباء و تخفيف الأثر الاقتصادي والاجتماعي و النفسي، حتى نعود لحياتنا العادية و التي بالتأكيد لن تعود طبيعية كما كانت. فإلى أن يظهر اللقاح، سيبقى ضروريا وضع الكمامات، واحترام إجراءات التباعد الاجتماعي، و تعقيم كل شي، و التوجس من كل ما نلمسه بأيدينا والمسارعة لغسل اليدين… وهكذا… في حالة غير مسبوقة ستحتاج منا الصبر و درجات عالية من اليقظة.
فهل سنتغلب على نقاط الضعف في سلوكاتنا ونطور أدائنا الفردي و الجماعي، و نختار طريق المواطنة الفاعلة والمنضبطة للقانون؟ أم أننا سنترك التاريخ يسجل أن هذه الجائحة الوبائية، بكل ما فيها من شراسة، عجزت أمام سلبيتنا، و لم تكن بالقوة اللازمة لتوقظنا من تخلف وعينا، وتثنينا عما نحن فيه من استهتار بأشياء كثيرة في واقعنا لم تعد تقبل منا مزيدا من الاستهتار بها؟