الدين والحياةسلايدر

مدارات رمضانية يكتبها للدار منتصر حمادة

القوة الصوفية الناعمة في المغرب ومواجهة وباء "كورونا": دروس أبو العباس السبتي

منتصر حمادة

بمقتضى الظروف الاستثنائية المرتبطة بالتعامل مع وباء كورونا، كان على بعض الفاعلين في العمل الديني، البحث في تراثنا الإسلامي المغربي، عن كنوز نظرية وعملية، من شأنها أن تكون مغذية لقيم التضامن والتعاون التي تفرضها هذه الأجواء، موازاة أو متابعة للكنوز الأصلية، التي جاءت في القرآن الكريم والأثر النبوي في شقه الصحيح بالتحديد.

من بين هذه الكنوز، نجد على الخصوص، الولي أبو العباس السبتي، دفين مدينة مراكش (توفي سنة 601 هجرية)، والذي ارتبط إسمه في مخيال المغاربة بظاهرة “العباسية”. ومعلوم أن أي رجل أعمال مثلاً، قرّر افتتاح مقهى أو مطعم، فإن اليوم الأول الخاص بافتتاح هذا المشروع، يكون الاستهلاك فيه مجانياً، احتراماً لعُرف مغربي أصيل، يُصطلح عليه “العباسية”، وإلى يومنا هذا، وأهل مراكش والضواحي يشهدون على ذلك، لا زالت الصدقات المودعة في ضريحه تخفف من آلام ثلاثة آلاف من فاقدي البصر، من المسجلين في قوائم الضريح، وما يزال الصناع في مجموع المغرب، ولاسيما صناع الإسفنج والخبز، يتصدقون بباكورة صنعتهم، ويسمونها.

وأصل هذا العرف كما سلف الذكر، مرتبط بالولي الصالح أبي العباس السبتي، والذي اشتهر إجمالاً عند الباحثين في التصوف الإسلامي، ومنه التصوف الإسلامي بمذهب التضامن والتوحيد والجود، ويمكن الزعم بأن ما قام به أبو العباس السبتي منذ قرون هنا في المغرب، هو عينُ ما تقوم به اليوم منظمات المجتمع المدني، في سياق التصدي للهشاشة والفقر ومساعدة المحتاجين على إيجاد أعمال مدرة للدخل، وواضح أن هذا العمل السبتي، بقي صامداً في وجه المذاهب والتيارات وبقي فاعلاً اليوم، حتى إن العديد من ذوي الاحتياجات الخاصة يتقاضون مساعدات من صندوق ضريح السبتي إلى اليوم.

ولأهمية هذه الشخصية، سبق للملك محمد السادس، باعتباره أمير المؤمنين في المغرب، أن طلب من أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، التعريف بأعمال الولي السبتين وهذا ما تمّ فعلاً في مضامين درس حسني رمضاني ألقاه التوفيق يوم 19 يونيو 2015، وتضمن أربعة محاور، وهي: التعريف بسيدي بلعباس؛ شرح مذهبه في التضامن؛ شرح علاقة مذهبه في الجود بالتوحيد، وأخيراً، عرض مذهبه على النظر الشرعي والصوفي والسياسي والاجتماعي والفلسفي، واعتبر كون ما يثير الانتباه أن نجد أبا العباس ينجذب إلى مراكش ومصيرها لم يعرف بعد، في مرحلة انتقال الحكم من المرابطين إلى الموحدين، ليكتب له أن يشهد الوقائع العظيمة في عهود أربعة من الخلفاء، هم عبد المؤمن ويوسف ويعقوب المنصور، والناصر. هكذا تنطبق حياة أبي العباس بمراكش على أوج حضارة المغرب في ذلك العصر، زمن كبار ساسة المغرب والأندلس، مضيفاً أن أبو العباس بدأ مذهبه التضامني العملي بالإنفاق على طلبة العلم الواردين على مراكش. وما لبث أن اشتهر بالجلوس في الأسواق والطرقات، وحض الناس على الصدقة، ويذكر ما جاء في فضلها من الآيات والآثار، فتتوارد عليه الصدقات، فيفرقها على المساكين وينصرف. كان مذهبه يدور على هذا المنوال، أخذ المال من البعض وإعطائه للبعض الآخر.

لقد قرن أبو العباس مذهبه هذا في الصدقة بالمواساة، فكان يخص بالإشفاق زمرة المساكين واليتامى والأرامل. يتصرف وكأن جسم المدينة التي يسكنها جزء من جسده، يحس بآلامها ويأرق لحرمانها… ولذلك قال أبو العباس لأحد أصحابه: أعط ما عندك لأول من تلقاه، ولو وقع في يد يهودي أو نصراني، فالحركة التي في مقدور الإنسان أن يتشبه في مستواها بالخالق هي الإعطاء.

مما أشار إليه الدرس الحسني أيضا، أن أبو العباس لم يخض في مسألة الحرية التي نمارسها عند الإنفاق، هل هي حقيقية أم وهمية، كما سيطرحها فيما بعد كل من ديكارت وسبينوزا، ولكنه قال: لا يصح الإنفاق إلا إذا كان في سبيل الله، ولم يكتف بإعلاء العطاء إلى مرتبة قيمة القيم كما هو الحال في الفكر المسيحي، بل جعله مرادفا للأمانة التي حملها الإنسان. (من باب التذكير، صدرت لأحمد التوفيق رواية خلال السنة الجارية بعنوان “جيران أبي العباس”)

لقد أشار الدرس الحسني سالف الذكر إلى أن أبي العباس سيكون راضياً لو تقرر تدريس الجود، بمعناه الواسع، في المدارس المغربية، تدريسه على أنه القيمة الأولى في التديّن، وذلك بكتاب مدرسي في التربية الدينية والوطنية، يشرح الجود للأطفال طيلة سنوات التعليم الأساسي، في دروس مصحوبة بتطبيقات في خدمة الغير، يؤديها الأطفال للجماعة، قبل أن يكبروا ويمتلكوا الأموال. (من يرغب في قراءة النص الكامل لهذا الدرس الحسني، ومعه شريط الدرس، سيجده في موقع وزار الأوقاف والشؤون الإسلامية على الإنترنت)

على أن هناك إشارة جاءت في هذا الدرس الحسني، تكاد تكون نبوءة، صادرة على لسان أحمد التوفيق ومن يقرأ هذه الفقرة بالذات، قد يعتقد أنها محررة في حقبة “وباء كورونا”، بينما جاءت في درس حسني رمضاني مؤرخ في 19 يونيو 2015، وليس 19 يونيو 2020. ونقرأ فيها، بالحرف: “إن المؤشرات تدل على أن الدعوات إلى التضامن ستتكاثر في المستقبل القريب، تحت تأثير الأخطار التي تتهدد العالم، وسيتردد في المحافل استعمال كلمة أجنبية هي كلمة partage أو sharing ، وتترجمان كلمة المشاطرة التي استعملها أبو العباس في المرحلة الأولى من مذهبه، فالتضامن بالمعنى العباسي أضحى في عالمنا لا مجرد اختيار، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وخلقية حتمية، لأن مجتمع السلم الذي يحلم به الناس لا وصول إليه قط إلا عبر مجتمع الجود والتضامن، بين الأفراد والطبقات والدول والقارات”.

واضح أن استحضار هذا الإسم في هذه الأجواء الوبائية، ليست مسألة ترف فكري، وإنما حاجة ملحة وضرورية، وحسناً فعلت القناة المغربية بأن بثت شريطاً وثائقياً حول هذا الولي المصلح، منذ شهر ونيف، والمطلوب اليوم، بمقتضى حالة الأزمة الاقتصادية التي من المتوقع أن تمر منها العديد من دول العالم، ومنها المغرب، أن تكون القيم الإنسانية النبيلة التي اشتغل عليها نظرياً وعملياً أبو العباس السبتي، أشبه بدرس يومي، يجب أن يصل إلى مخيال المجتمع المغربي، وهذه مهمة جماعية، تتطلب انخراط العديد من الفاعلين، في المؤسسات الدينية وفي المنصات الإعلامية، التقليدية والرقمية، الرسمية والخاصة، سواء بشكل مؤسساتي أو بشكل تطوعي، أو قل، بتعبير أحمد التوفيق، “إن فكرة الجود كما جاء بها السبتي قيمة عظمى في الرأسمال اللامادي الذي أسهم به المغرب في فهم الدين والحياة”، حيث توقف الدرس الحسني عند وراثة الملك محمد السادس لهذا الرأسمال اللامادي وتجدده بما يناسب من اجتهادات عصرية، متوقفاً عند ثلاث إشارات في هذا السياق:

ــ الرعاية الملكية لأعمال التضامن، وتحريض الفاعلين في جميع القطاعات على الإسهام في أعمال الخير والبذل، سواء بالمباركة أو الدعم أو التحفيز الضريبي للنفع العام.

ــ حماية المؤسسة الملكية [عبر مؤسسة إمارة المؤمنين] للدين الذي هو منبع الجود الموصول بأصله في أسماء الله الحسنى، موازاة مع الرعاية الملكية للبعد الروحي للدين القائم على التزكية والتحلي بالتوحيد.

ــ قيادة المؤسسة الملكية لسيرورة التنمية الديمقراطية، لأن الاستقرار والطمأنينة السياسية والإرادة الحرة ضمانات لبيئة الجود والإيثار، وحيث إن الغائب الأساسي عن الديمقراطية الحديثة هو الدين، وأن الكمال المنشود هو في إعلاء الجود في جميع أبعاده كقيمة مركزية، تربي عليها الأسرة وتنميها المدرسة ويحض عليها المسجد وتؤازرها التوجهات الاقتصادية وتتسم بها الالتزامات السياسية، حتى يتأتى بناء مجتمع السلم ابتداء من شكر الإنسان، مجتمع تباركه السماء وتلفه الألطاف وتغمره المرحمة.

بل نزعم أن رمزية أبو العباس السبتي، تصنف في خانة “القوة المغربية الناعمة”، والتي تندرج بدورها في سياق قوة أكبر، عنوانها الميراث الصوفي الإصلاحي في المغرب الأقصى، وليس صدفة، أن البعد الصوفي، يُعتبر من المحددات المركزية في وظائف وثقل مؤسسة إمارة المؤمنين، في معرض التعامل مع العديد من دول المنطقة، وخاصة الدول الإفريقية.

زر الذهاب إلى الأعلى