النيران الصديقة.. تندلع في الغطاء السياسي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان
هل تؤشر الخرجات الإعلامية الأخيرة لأعضاء في الصف الأول داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان عن قرب “انبلاج” الجناح السياسي وفرزه عن التيار الحقوقي ؟ وهل تندر هذه المواقف المتضاربة بإيذان “انبجاس” النهج الديمقراطي وحزب الطليعة عن باقي المكونات السياسية والحقوقية للجمعية المغربية لحقوق الإنسان؟
لكن قبل الخوض في “الخلفية السياسية للعمل الحقوقي” داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي المسألة التي تحظرها القواعد الدنيا لمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، لا بد من إعادة قراءة واستقراء المواقف الأخيرة لقياديين في الجمعية، لاسيما تصريحات إبراهيم ميسور نائب رئيس الجمعية، ومنعم أوحتي عضو الكتابة الوطنية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
اتهامات باستغلال النفوذ.. والانحياز المفضوح
في تصريح منسوب لنائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، منشور في الصحافة الوطنية، صرّح إبراهيم ميسور بأن “جهة متنفذة داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان هي من تحكمت في صدور البيان في قضية الريسوني“، الذي وصفه بأنه بيان “اتسم بعدم الحياد من خلال تغييبه لحق الضحية المفترض في الانتصاف“، وبأنه يتضمن “موقفا متحيزا وغير محايد لصالح طرف ضد آخر واصطفاف مخالف ومتناقض مع مبادئ وأسس المحاكمة العادلة“.
وباستقراء هذا الموقف من منظور القانون الجنائي العام، يظهر بأن نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان يتهم جهات داخل الجمعية “باستغلال النفوذ“، بدعوى أنها تحكمت في إصدار بيان تضامني منحاز في قضية سليمان الريسوني رغم عدم موافقة باقي الأعضاء! وهي تهمة كانت دائما الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تنسبها للموظفين العموميين ولأصحاب المال والسلطة حسب تعبيرها، قبل أن تصبح هذه التهمة “ماركة مسجلة” لصيقة بقياديين يوجدون في الصف الأمامي داخل الجمعية. واللافت للانتباه، أن الجهة التي تلصق بهم هذه التهمة ليست هي الدولة أو المخزن وإنما هو نائب رئيس الجمعية، الذي يتحدث من البيت الداخلي بعيدا عن منطق المؤامرة والاستهداف الممنهج.
والملاحظ أيضا، أن التصريحات المنسوبة لإبراهيم ميسور انطلقت من العام نحو الخاص، ومن العمومية إلى التخصيص، إذ تحدث في البداية عن “جهات متنفذة“ تتحكم في إصدار البيانات، قبل أن يشير “بالإيحاء” لهذه “الجهات المتنفذة” عندما قال بأن بيان الجمعية جاء” كنسخة شبه مطابقة للأصل لبيان لجنة التضامن مع الصحفي سليمان الريسوني، والتي من بين أعضائها أعضاء بالمكتب المركزي للجمعية، والذين يعتبرون أنفسهم ممثلين فيها بصفة شخصية إلا أنه تبين تأثيرهم في صياغة البيان“، وهنا كان يقصد بشكل واضح خديجة الرياضي وعبد الإله بنعبد السلام، لأنهما ينتميان معا، وفي الآن ذاته، للجمعية وللجنة التضامن مع الريسوني.
أما منعم أوحتي، فقد آثر الرجوع إلى التاريخ القريب للاستدلال على ما سمّاه “اللغة اللاحقوقية” لبيانات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وعدم حياديتها من خلال الإمعان في تحويلها “لذرع سياسي” لمن وصفهم ب”المزمرين والمزمرات”، متحدثا في هذا الصدد عن “مواقف تسييس قضية إكديم إيزيك بمناصرة سياسية فاضحة لانفصاليي البوليساريو“، والاستمرار في “لعبة التزمير بمراوغة التاريخ والمبادئ الحقوقية ودفع الجمعية للاصطفاف خلف المجرم المفترض في اغتيال الشهيد بنعيسى أيت الجيد“، قبل أن يخلص إلى محاولة هذه “الزمرة المتنفذة توريط الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في بيانات ولجان التضامن (الكوكوت مينوت)”، في إشارة إلى التسرع في إحداث اللجان التضامنية بالموازاة مع اندلاع بعض القضايا الجنائية.
الجمعية.. وازدراء الحقوق
يبدو أن السجال الداخلي الذي تعيش على وقعه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الآونة الأخيرة، قد يعصف ب”أصلها التجاري” المتمثل في “النضال السياسي تحت عباءة العمل الحقوقي”. وهذا ليس حكم قيمة أو انطباع لدى كاتب هذه السطور، وإنما هو انعكاس لما كتبه وصرح به قياديون داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الذين طالبوا ب”حفظ الجمعية لنسق اشتغالها الحقوقي الصرف، وبخطاب يراعي اللغة الحقوقية، وكونية الخطاب المؤطر بآليات حقوق الإنسان، ولغة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.. بعيدا عن تحويل الجمعية لمنصة لإطلاق الصواريخ السياسية الراديكالية الثورجية التزميرية“.
والمثير في هذا النقاش القانوني والسياسي المحتدم، هو أنه لأول مرة في تاريخ المغرب يتهم حقوقيون ومدافعون عن الحريات الأساسية والفئوية الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بأنها تزدري حقوق الأقليات، وتبخس حقها في طلب الانتصاف القانوني، وذلك في موقف مناقض ومجافي للمعايير النموذجية الدنيا التي تؤطر عمل المنظمات الحقوقية عبر العالم.
وفي هذا الصدد، سجّل العديد من الحقوقيين كيف أن الدولة وأجهزتها الأمنية أصبحت أكثر حرصا على الحقوق والحريات الفئوية من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي من المفروض فيها الاضطلاع بهذه المهمة. وهي مفارقة غريبة جدا لكنها أصبح واقعا يؤكده العديد من المهتمين:” فالمديرية العامة للأمن الوطني كانت قد نشرت تصويبا سابقا تقول فيه بأن ضباط الشرطة القضائية يتعاطون مع شكايات الأشخاص، بصرف النظر عن ميولاتهم واختياراتهم“، وذلك في معرض ردها على قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية زعمت فيها أن “أصحاب الاختيارات المثلية لا يقدمون شكاياتهم بسبب الخوف من التدابير القانونية“.
وهذا التصويب الأمني هو بمثابة إشارة التقطها، ربما، الضحية محمد آدم وبادر بتسجيل شكايته في مواجهة سليمان الريسوني، رغم أنه رزح تحت نير المعاناة النفسية لأكثر من سنتين، وذلك في وقت اختارت فيه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أن تكون أكثر سلطوية من السلطة ذاتها، وآثرت التعاطي مع الضحية كنكرة وصاحب تدوينة مجهولة، ما كان له الحق في الانتصاف ولا التشكي القانوني.
وإذا كانت “الجهات المتنفذة” داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان قد اختارت “التوظيف السياسي لهذه المحاكمة الجنائية”، كما اختارت جهات نافذة في منتدى الكرامة لحقوق الإنسان أن تصطف لجانب المتهم على حساب الضحية، فإن العديد من الحقوقيين كان لهم موقف معارض، ينهل من ثقافة حقوق الإنسان بعيدا عن الاعتبارات السياسية والاصطفاف المفضوح إلى جانب المتهم.
فمصطفى اليحياوي، العضو السابق في منتدى الكرامة لحقوق الإنسان وأستاذ الجغرافيا السياسية كتب تغريدات في حسابه الشخصي على تويتر قال فيها ” أعتقد أن النظر في شكايات المواطن (ة) بغض النظر عن ميولاته الجنسية واجب مهني ينبغي على الساهرين على إنفاذ القانون الالتزام به، كما أن توفر شروط المحاكمة العادلة واحترام قرينة البراءة أمران لا محيد عنهما في دولة يعتبر فيها القانون المصدر الوحيد لإحقاق العدالة“. كما غرد قائلا “من حسنات النقاش الحقوقي والقانوني الدائر حول الحقوق الفردية، أننا بصدد تصورات وإن اختلفت في تقدير الغاية من إنفاذ القانون، إلا أنها تشترك في الموقف من وجوب حماية حق الأقليات ذات الميولات الجنسية الخاصة من العنف والتمييز والكراهية“.
ولعلّ هذا الموقف يتطابق إلى حد كبير مع تصريحات إبراهيم ميسور التي قال فيها “الموقف الحقوقي السليم بخصوص هذه القضية والخالي من أي مزايدات سياسوية هو اتخاذ موقف الحياد التام تجاه طرفي القضية، وبشكل متساو ومتوازن والعمل على ملاحظة وتتبع المحاكمة في جميع المراحل“، وهو نفسه جوهر موقف منظمة هيومان رايتش ووتش التي طالبت بالمحاكمة العادلة للمتهم، إقرارا منها بالطابع الجنائي للملف، مع حفظ حق الضحية في تقديم الشكاية أيا كانت ميولاته أو اختياراته.