الخطاب التأويلي المعاصر.. قراءة في مدخلية التجديد
الدار/ بتصرف
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء مقالة بحثية للدكتور الحسان شهيد، أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب.
وفيما يلي نص المقال
إلى جانب الاتجاهات المعتبرة الداعية إلى تجديد الخطاب الإسلامي، عاود الظهور اتجاه آخر يلتمس في البحث التأويلي للنص الشرعي خلاص المسألة التجديدية، ولكونه التمس في ثابت النص الشرعي مدخلاً إشكالياً، ومنطلقاً منهجياً في قراءة الواقع ومكوناته المتغيرة، إضافة إلى فهمه المتعسف للبعد التأويلي ومجاله في سبيل تطويع النصوص؛ حتى تستجيب لمتطلبات الذات والوجود، ولأن هذا الاتجاه أيضا بدأ يفرض نفسه على الساحة العلمية بمناهجه وأسسه التي ينبغي الوقوف عندها، والكشف عن خلفياتها. اختارت هذه الورقة تحقيق النظر في أبعاد هذا الاتجاه ومرتكزاته مستندة إلى القراءة التأويلية المعاصرة لنصر حامد أبو زيد في مشروعه الفكري التأويلي.
فما هي أبعاد هذا الاتجاه؟ وما فلسفته المعرفية؟ وما هي أسسه ومرتكزاته العلمية؟ وما مدى إمكانات تحريره لإشكال التجديد؟
أولا: الخطاب والتأويل أو إشكال النص
تمحور الفكر الأصولي منذ بداياته التأسيسية حول عناصر كبرى، شكلت أركانه، ومكونات بنية خطابه وعمرانه، وقد لجأت أغلب الدراسات الباحثة في تطويره باعتباره المدخل الأساس في تغيير وضع الأمة والتأسيس لنهضة حقيقية إلى تلك المستويات إما إفرادا بالبحث، أو إجمالا في النظر، ويمكن تحديديها في العناصر الآتية:
مستوى الواقع
معتبرة أن حال الأمة ووضعها الاعتباري من جانب القوة والفعل الحضاريين مؤشران حقيقيان على مدى حضورها الإنساني، وإسهاماتها الثقافية في الواقع الذي تعيشه، لذلك فإن هذا المستوى دفع هذا الاتجاه إلى التساؤل حول إمكانية وجود الخلل في واقع الأمة بكل تجلياتها.
مستوى الأمة
وإن كان بينه وبين المستوى السابق وثاقة فقد يقول قائل إن تجديد المنهج جزء من مكون الأمة لأن تفكيرها قاصر عن إنجاز رؤية تجديدية في المنهج المعتمد؛ لكن الفكر والإنتاج المعرفي راجع إلى مكون الأمة وقدرات أفرادها على التفكير والعطاء، وحالة الأمة وواقعها ليس بالضرورة مرتبط بالمنهج المعتمد؛ لأن بناء الأمة وقيامها مرتبط بالتنشئة والتربية والبناء الثقافي المستمر الذي يتطلب وقتا طويلا وأجيالا متوالية.
لكن في مواجهة ذلك، يحمل هذا الاتجاه الأمة مسؤوليتها المحصورة في تفعيل أفرادها للمنهج المعد وتنزيله على واقعها، لكسب ثمراته وفوائده العلمية والعملية حتى يتحقق الشهود الحكمي في مواقع الوجود.
مستوى المنهج
أي آليات توليد وإنتاج المسودات القانونية والتشريعية المعتمدة في التنظيم الاجتماعي والتسيير العام للأمة بكل مؤسساتها، لكن من العسير تقبل نسبة تراجع الأمة إلى منهجها القانوني بالقصد الأصلي والسؤال الكلي؛ لأنه بين المنهج والمكلفين المؤسسين لمؤسسة الأمة علاقة جدلية وثنائية ترابطية، إضافة إلى مستوى واقعها بكل تجلياته المحلية والإقليمية والعالمية وبما يكتنفه من قوى وتكتلات دولية.
مستوى النص
ما دام الأمر يتعلق بالتفكير في المجال التداولي الإسلامي المعتقد بخصوصية النص الشرعي، سواء كان قرآنا أو سنة فليس هناك من يشكك في سلامته وقوته الثبوتية من هذه الجهة، أو إتيان الإشكال منها، إلا ما كان من نصوص الحديث التي قد يمكن الاستغناء عنها حالة حصول الضعف في جهتها. لكن طبيعة الاستشكال المفترض عند بعض الاتجاهات تفترض في هذا المستوى إشكالا معرفيا ومنهجيا من حيث الفهم واكتشاف المعنى القريب أو البعيد، مستغلة الغياب الفعلي لذلك المعنى المطلق، فاعتبرت النص محور إشكالها متخذة المنحى التأويلي سبيلا لمعاودة النظر في الآليات والمناهج والقصود.
ثانيا: إشكال المنهج التأويلي
مهما تعددت صور التأويل وآلياته، فإن حقيقة الإشكال المعتبر فيه يبقى مجاله النص، ومحوره المعنى والمفهوم، وإن استثمار النظر التأويلي في إدراك المعاني الخفية ضرب من التدافع بين الواقع والنص، إما على أساس فهم الأول على ضوء الثاني، وإما بتطويع دلالات الثاني ومعانيه؛ حتى تجيب على أسئلة الأول؛ لأن قراءة النص بهذا المعنى “يجعل البشرية تطوع النص ولا تستطيع أن تتحرر مما يسيطر عليها من ثقافة، عصراً ومذهبية، فتكون النتيجة أن هؤلاء المفسرين لا يقدمون لنا القرآن، بل يقدمون لنا أنفسهم وثقافتهم وعصرهم([1])“، وهذه الغاية هي التي تم رفض المنهج التأويلي بسببها.
ولقد تطورت المناهج التفسيرية والأدوات الأصولية عبر السياق المعرفي لتاريخ العلوم الاسلامية، وقد ترتب عن ذلك “جهود بنيت من داخل النص، وعلى ضوء معايشته، وعلى وعي حقيقي لمفهوم النص، وتتضمن الكثير مما لم يتم استنفاده أو الاستفادة منه، ولا شك أن تجاهل أو تجاوز ذلك الإرث الأصولي الضخم خسارة جسيمة في حق مناهج البحث والتأويل المعاصرة في قراءة النص القرآني([2])“.
وعلى افتراض صحة أن العمل على فهم المعاني النصية في القرآن الكريم بواسطة الأدوات الموروثة، وآلياتها، لم يعد يفي بالحاجات العلمية الضرورية، إلا أنه “ليس من العدل مع النص القرآني، أيضاً، أن نستخدم مناهج تحليل النص المعاصرة كما هي دون استصحاب الرؤية الإسلامية لتحليل نص القرآن المجيد([3]).”
فأهل التأويل وأصحابه إذن، يضبطون حقيقة إشكال القراءة في خصوصية النص ومتعلقاته؛ لأن النص حسب مفهومهم النقدي “يحتمل فراغات يملؤها القارئ بالأسئلة والإشكالات، فالتأويل في جوهره حوار وجدلية في المساءلة، والتساؤل: مساءلة للنص، وتساؤل حول ما يمكن أن يمنحه النص للقارئ، رغم المسافة الزمنية([4]).”
لذلك لا يمكن التعامل مع مبانيه إلا باستيعاب معانيه، وتجاوزه إلى دلالات وفهومات الواقع والوجود، وإلا تم استثمار المنهج التأويلي في كليته مع استحضار الخطاب، والمخاطِب، والمخاطَب، وآليات التفسير المنسجمة مع هذا الثلاثي، والمنتمية إلى حقله المعرفي، فلم يتم الفصل بين هذه المكونات استعارة واستجداء بمفاهيم النقد الأدبي ومدارسه.
لذلك، فإذا سبق للتأويل أن رُفِضَ تاريخياً مع المعتزلة وغيرهم على حسن نياتهم وصفاء مقاصدهم في حفظ الخطاب الشرعي، وفهم معانيه ودلالته، وحماية مكتسبات المكونات الكبرى للخطاب الشرعي، فإنه لا يمكن أن تتحقق معه مسألة حسم تجاوز النص والخطاب جملة، وقراءته قراءة يوحي بها واقع الإنسان؛ لأن الخطاب له مضمرات لغوية وشرعية وبيانية، قد لا تفهم على قدر ما يتيحه الواقع الإنساني من مساحة ومجال معرفيين، وهذا، بلا شك، سيحيل النظر التأويلي في تفاعله مع النصوص وبناء على الواقع الإنساني، إلى مسألة إدراك المصالح الشرعية بالعقل.
ثالثا: الخطاب التأويلي والتجديد، في الأبعاد
يصعب إدراج الاتجاه التأولي للخطاب الشرعي وفهوماته للنص الشرعي ضمن نظريات التجديد المعاصرة، سواء كانت فكرية أو شرعية أو فلسفية؛ لكونه التمس في ثابت النص الشرعي مدخلاً إشكالياً، ومنطلقاً منهجياً في قراءة الواقع ومكوناته المتغيرة، إضافة إلى فهمه المتعسف للبعد التأويلي ومجاله في سبيل تطويع النصوص؛ حتى تستجيب لمتطلبات الواقع والإنسان، إلا أن ما يشفع ضرورة إدراجه ضمن تلكم النظريات؛ كونه بدأ يفرض نفسه على الساحة العلمية بمناهجه وأسسه التي ينبغي الوقوف عندها، والكشف عن خلفياتها.
ويعتبر نصر حامد أبو زيد من كبار رواد هذا الاتجاه، حيث أبدى في السنوات الأخيرة اهتماماً بالغاً، واشتغالاً كبيراً على نظرية التأويل وتطبيقاتها على النص الشرعي، ومن أهم كتاباته في هذا المجال: مفهوم النص، ودراسة في علوم القرآن، ثم كتاب الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النصوص، إشكاليات القراءة والتأويل، ثم كتاب الخطاب والتأويل، وغيرها من الأبحاث والمقالات، كلها دراسات في المنهج التأويلي ومسالكه وأبعاده.
لابد من التذكير في البداية أن النظر التأويلي في النصوص الشرعية لا يعد أمرا جديدا على الدراسات الأصولية، وليس غريباً عنها، بل عرفته إلى جانب تفسير النصوص، وقد حسم فيه النظر علماء الأصول بقبول ما يوافق المقتضيات الشرعية، ولا يتجاوز الفهم الدلالي للنص الشرعي من دون تعسف، ورفض ما عدا ذلك؛ لكونه تقصيد للمتكلم والمخاطب من غير دليل، أو قرينة شرعية مسوغة أو عقلية دالة على صحة مذهب التأويل. ونظراً لمحورية النص في التراث الإسلامي، ومركزيته في الفكر الأصولي خصوصاً “فإن علماء الأصول تعلقوا بالدقة والضبط والصرامة المنهجية في إرسائهم لقواعد القراءة وضوابط التفسير، ووضعوا في كتبهم عدداً من القواعد والضوابط التي تعد أمراً ملزماً وضرورياً في تفسير الخطاب الشرعي([5]).”
وفي هذا الشأن وقف العلماء من القراءات التأويلية للنصوص الشرعية موقفاً حازماً لما وظفت انتصاراً للمذاهب الفقهية، وتأسيساً على المرجعيات العقدية، أو تخطيئاً لغيرها من المخالفة لها التي تبتعد عن نشدان الحق والصواب، والمعرفة العلمية المرغوب منها إدراك الأحكام الشرعية غير المنصوص عليها.
وفي هذا السياق يقول ابن تيمية واصفا مسالك هؤلاء المتأولة بأنهم: “تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه وإثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً، فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول، وهذا كما وقع في تفسير القرآن؛ فإنه وقع، أيضاً، في تفسير الحديث… وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم، وتارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه([6]).”
لكن الخطاب التأويلي المعاصر بمناهجه الجديدة وآلياته المستحدثة، وإن تكوّن دفاعاً عن أفكاره وغاياته، فهو قد نشأ وتخلَّق في رحم التدافع بين الوضع الواقعي والحال الإنساني بما يحمله من ضغوطات وإكراهات، ويتمثل ذلك في أمرين اثنين:
أولهما؛ تحديات الواقع وإكراهات التطور الهائل الذي عرفه العالم المعاصر، يقول أبو زيد: “وإذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا التراث ونسقطه من حسابنا، فإننا بالقدر نفسه لا نستطيع أن نتقبله كما هو، بل علينا أن نعيد صياغته، فنطرح عنه ما هو غير ملائم لعصرنا، ونؤكد فيه الجوانب الإيجابية، ونجددها، ونصوغها بلغة مناسبة لعصرنا. إنه التجديد الذي لا غناء عنه إذا كنا نريد أن نتجاوز أزمتنا الراهنة، إنه التجديد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويربط بين الوافد والموروث([7]).”
والثاني؛ قوة المناهج العلمية الجديدة وهيمنتها على مختلف مجالاتها الإنسانية، والاجتماعية، الأمر الذي يدعو إلى الإفادة منها واستثمار فوائدها في فهم النصوص وفقه معانيها الغائبة عن العقل المجرد، يقول أبو زيد: “لكن مفهوم المصطلح؛ (أي التأويل) قد اتسع في تطبيقاته في الفكر الحديث، فصار يتناول، إلى جانب تأويل النصوص الدينية، عمليات التأويل المعرفية في العلوم الإنسانية، كالتاريخ وعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم الجمال، والنقد الأدبي، والفولكلور، صارت التأويلية باختصار هي جوهر ولب “نظرية المعرفة” في محاولتها وصف فعل القراءة؛ أي قراءة لأي ظاهرة، تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية، أو اقتصادية، بوصفها بناء معقداً من العلاقات التي تتضمن عناصر: الذات، والموضوع، والسياق، ونسق العلامات، والرسالة([8]).”
خاتمة
يمكن القول إن جوهر الإشكال في فقه الخطاب الشرعي وفق المنهج التأويلي، كما سلف البيان، يتلخص في تعالي الخطاب الشرعي وسمو معانيه الكلية عن متطلبات الواقع الإنساني بجزئياته المتجددة والمتعددة، بما يحمله من حاجات ومصالح، ولا تعدو مداخل النظر فيه أن تكون ثلاثة:
ـ الأول؛ تقديم نصوص الخطاب الشرعي بصورة متعينة، واستثمار معانيها الظاهرة الواضحة، وهذا سَيُفوِّت عدداً من المصالح والحاجات الإنسانية.
ـ الثاني: تقديم المصالح الإنسانية ومشخصاتها الجزئية على النصوص الكلية العامة وإخضاعها لتأويلات مخصوصة وفق مناهج وأدوات خاصة إما عقلية أو ذوقية؛ حتى تستجيب لتلك المصالح، وهذا فيه تعسف وإلغاء لمحمولات الخطاب لا يليق بقدسية الخطاب الشرعي.
ـ الثالث: الجمع بين المتعارضين بوجوه من الوثاقة والارتباط بحيث تحفظ قيمة الخطاب الشرعي، وتراعي مصالح الإنسان، بناء على قواعد تخرج عن المنهج الظاهري وتحترز من المسالك التأولية المتعسفة، وهو الأسلم والموافق لخصوصيات النظر الشرعي.
وليس في استطاعة العقل الأصولي بناء على ما سبق من معطيات ومسائل قائمة على التعارض، أن يأتي أبلغ وأجرأ مما أتى به أبو الربيع الطوفي خلال القرن الثامن، حينما قدَّم المصالح على النص والإجماع، وإن تغيرت الأسماء والمسميات والمصطلحات، من تأويل وتفسير وقراءة وفهم علمي للنصوص.
وإن تعددت القراءات التأويلية بصيغها وأساليبها المتعددة، فإنها ليست بالجديدة على هذا المعنى، لذلك فإن حل الإشكال وخلاصه، في اعتقادي، يمر عبر الجواب عن الأسئلة الملحة على الفكر الأصولي والكامنة تلخيصا في فقه العلاقة والوثاقة بين مدركات النص والواقع الوجودي للإنسان.