دراسة ترصد حقيقة الجمال بين الفلسفة الغربية والتصور الإسلامي
الدار/ خاص
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء دراسة للأستاذ ادريس التركاوي حول “حقيقة الجمال بين الفلسفة الغربية والتصور الإسلامي”.
وفيما يلي الدراسة العلمية
أولا: في الفلسفة الغربية
الجمال، عموما، تجربة إنسانية تصدر عن صفة نفسية مبثوثة في جبلة الإنسان طبعا ضمن المعارف القبلية المسبقة المسماة بالفطرة. بيد أنه تعرض، من حيث هو مفهوم، في الفكر الفلسفي إلى نوع من التعريفات “الزئبقية” الخارجة عن ضوابط الحد وقواعده؛ لأن طبيعته الذوقية فرضت سلطتها على المعرف الخارجة عن قواعد الأجناس والفصول والخواص!
قال “ولترت ستيس” في كتابه “نظرية في الاستيطيقا” في فصل بعنوان “الجمال من حيث مفهومه”: “مشكلة علاقة الجمال بإدراكه على نحو ما فصلناه في الفصل السابق، هي مشكلة بسيطة إذا ما قورنت بمشكلة علاقة الجمال بمفهومه أو تصوره؛ كيف يدخل الفكر التصوري في تركيب التجربة الجمالية؟ وهل يدخل أصلا أم لا؟ وإذا كان يدخل في هذه التجربة فبأية طريقة؟ تلك هي في الواقع النقطة الحيوية والمحيرة في المشكلة الجمالية.
فهذا هو الخط الفاصل والحاسم الذي يفصل بين فلاسفة المدارس المختلفة”[1]؛ ففي الوقت الذي ثار فيه سقراط على البعد الحسي للجمال رادا حقيقته إلى النفس، إذ إنه” لا يأبه بالجمال الحسي الذي يتغنى به فنانو عصره وشعراؤه (…) قدر اهتمامه بجمال النفس والخلق الفاضل”[2]؛ ذهب أفلاطون إلى أن حقيقة الجمال تنصهر في إدراك الجمال الإلهي[3].
غير أن التصور الافلاطوني هو الذي ساد في المجتمع اليوناني؛ يقول “إتيان سوريو”: “يمكن القول بأن ثمة فعلا رسالة خالدة في كل ما يصدر عن الحاجات الجمالية عند شعب كان الجمال في عرفه دليل الألوهية وشرطا من شروطها”[4]. حيث صار طابعه وظيفيا في الجملة.
وقد وجه هذا الوصف ذو الوجهين المتقابلين الفلسفة الحديثة في تصورها للجمال، فلم تستطع تلافي ثنائية الحسي والأخلاقي، إلى أن انتهى عصر النهضة الأوروبية؛ فظهرت اتجاهات أخرى ارتبطت حقيقة الجمال فيها بصيرورة الأحداث الواقعية والاجتماعية آنئذ. حيث ظهرت المدرسة الرومانتيكية لقتل حركة الجمال الكلاسيكي، كما ظهرت الواقعية على أنقاض التيار الرومانسي، وذلك بحسب التغيرات الاجتماعية والتحولات السياسية والثقافية والطبقية السائدة.
يقول أحمد نظمي سالم: “لقد كانت الرومانتيكية[5] انتفاضة ضد الروح الفلسفية للشعوب اللاتينية، وشعوب البحر المتوسط. ولم تنشأ هذه النزعة من العدم أو الفراغ فقد مهدت لها في فرنسا آلام الشعب وشكواه من النظم الاجتماعية السائدة التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية لتدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة”[6]، إلى أن قال: “ومن ثم يتضح أن النزعة الرومانتيكية كانت رد فعلٍ للكلاسيكية التقليدية أتت بقيم جمالية جديدة”[7].
ثم يتحدث عن الواقعية فيقول: “تمثل هذه النزعة تحولا في موضوعات العمل الفني أو في معالجة المضامين التي يزخر بها الواقع الاجتماعي… وقد ظهرت الواقعية في منتصف القرن التاسع عشر كرد فعل للمذهب الرومانسي الذي ناهض المذهب النيوكلاسيكي”[8]. إلا أن الطابع العام كان، قبل ظهور نشاط هذه الحركات كما أشير، رهين الاتجاه الأفلاطوني القديم في التعريف للحقيقة الجمالية، إذ “لم يتلفظ حتى نهاية عصر النهضة بفكرة حول الفن إلا بالرجوع إلى أفلاطون”[9].
وأما هيغل، أرسطو الفلسفة الحديثة، فلم يستطع بدوره التخلص من هذه الثنائية: الحسي والروحي، إذ عرف الجمال بأنه ”تجلي الفكرة بطريقة حسية”[10]. فالجمال عنده هو “اتحاد عضوي بين المجال الإدراكي (أو التجسيد الحسي) والمضمون العقلي (أو المضمون الروحي)”[11]. والجمال الفني هو أرفع عنده من جمال الطبيعة لأنه من “إبداع الروح… وخلق الوعي وإنتاج الحرية، وما هو من إنتاج الروح يحمل طابعها ويكون أسمى من الطبيعة”[12].
وقد واصل سير المحاكاة زعيم الفلسفة المعاصرة “كروتشه”، حينما اعتبر أن الحدس باعتباره مفهوما “غير منطقي ولامعقول”[13]؛ هو المحرك الأول للجمال. قال ولترت ستيس: “فحتى كروتشه الذي لم يكن صوفيا قط، والذي يبدأ فكره بصفة عامة بداية عقلية، كان مع ذلك فيلسوفا حدسيا في ميدان علم الجمال”[14]، ومن ثم فـ”الإحساس بالجمال [عنده] تعبير باطني، فدرجة تقديرنا للعمل الفني تعتمد على قدرتنا في أن نرى الحقيقة المصورة ببصائرنا مباشرة”[15].
ولقد حاول، بعد هذا وذاك، الأستاذ ولترت ستيس أن يستخلص تعريفا للجمال في سياق نقده للتصورات الفلسفية السابقة، فقال: “يمكن أن ألخص النظرية التي أقترحها في قضية تقول: إن الجمال هو امتزاج مضمون عقلي مؤلف من تصورات تجريبية غير إدراكية، مع مجال إدراكي بطريقة تجعل هذا المضمون العقلي، وهذا المجال الإدراكي لا يمكن أن يتميز أحدهما عن الآخر”[16].
هذه نظرة ملخصة بسيطة تصف حقيقة الجمال كما هي في الفلسفة الغربية عند أشهر روادها جعلت مطية للدخول في صلب حقيقته في التصور الإسلامي، واستيفاء القول فيها قد سبق إليه كثير من العلماء والأساتذة[17].
ثانيا: في التصور الإسلامي
الجمال في دلالته الأصلية الابتدائية: الحسن والبهاء والزينة، وإذا تعلق بالإنسان اشترط فيه التناسق والكمال في جميع الأحوال في صيغة كلية لا تقتصر على جزئي من جزئياتها. قال الراغب في نص هو المؤسس لهذه الكلمات المتواضعة: “الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية؛ كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه. فقوله: ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 07) فهو من الزينة النفسية. وقوله: ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ (الأعراف: 30) فقد حمل على الزينة الخارجية؛ وذلك أنه قد روي أن قوما كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهوا عن ذلك بهذه الآية، وقال بعضهم: بل الزينة المذكورة في هذه الآية هي الكرم المذكور في قوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)”[18].
وهو في التصور الإسلامي مقصد أصيل وظيفته خدمة كلي من كليات المقاصدية الكبرى، كما سنرى مع الشاطبي، وقد تعبر عنه اللغة التجريدية كما قد تعبر عنه اللغة التصويرية، وذلك غالب الشريعة[19] كما هو الحال بالنسبة لمجموع الصور الفنية اللغوية المنظومة في آي القرآن وجوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم[20]. وكذا الصور التجسيمية إذا أمنت الوقوع في خرم أصول العقيدة وقواعد التوحيد. فتحريم الصور المنحوتة في قوانين التشريع الإسلامي إنما يرجع إلى بعده الوظيفي في المآل المشخص في قاعدته الجزئية “سد الذريعة”؛ لأن شيئا من الجمال فيها المحكوم بجلال الله تعالى المستأثر به قد تحدث محاكاته زيغا عقائديا شعوريا! فليس شيء من التحريم راجعا إلى ذات الشيء وماهيته، كما ادعى بعضهم، وإنما هو عارض عروض المآل لأصل الحال[21].
والجمال في التصور الإسلامي سواء تعلق بصورة الإنسان أم بفعله ونظامه النفسي أم بنعم الله الوجودية في الخارج، كل ذلك لا يخلو من تأطير نوعين من الإرادة مرتبطين بمشيئة الله في خلقه هما: إرادة التكوين وإرادة التكليف.
فما كان من الأولى فهو راجع إلى إرادته سبحانه الكونية القدرية المتعلقة بربوبيته وخلقه. وما كان من الثانية فهو راجع إلى إرادته الأمرية التشريعية المتعلقة بألوهيته وشرعه. فالأولى عنوانها توحيد الربوبية، والثانية عنوانها توحيد الألوهية. والأمران غير متلازمين؛ فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يأمر بما لا يقدره ولا قضاه. وقد يجتمع الأمران معا. وقد ينفرد الكوني فيما وقع من المعاصي كما ينفرد التكليفي فيما وقع من الطاعات [22].
وإذن، فالإرادة القدرية الخلقية هي “المتعلقة بكل مراد؛ فما أراد الله كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه… والإرادة الأمرية هي المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به، وعدم إيقاع المنهي عنه. ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه… وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه”[23]. مما أعطى للحقيقة الجمالية بعدين تشكلا في شكل نوعين، هذه توطئة دلالية لحقيقتهما نمهد بها للوصول إلى المرام:
- جمال التكوين (أو الجمال الابتلائي)
جمال التكوين هو جملة النعم أو أسباب الزينة التكوينية الابتلائية الموضوعة سببا للاستمتاع على الإطلاق، بناء على أن “الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحانا لهم، فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة”[24]. فهو من المصالح المطلقة الراجعة إلى قصد الشارع الابتدائي قبل تصرف المكلف، كما سوف يأتي مع أبي إسحاق، لكنه مسيج بغطاء مشيئة الله في خلقه بقصد ابتلائهم واختبارهم قضاء وقدرا.
فعلى هذا النوع من الجمال وضعت أصول النعم في الكون ابتداء؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الكهف: 07). وقال سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ…﴾ (آل عمران: 14). وقال جل وعلا: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: 46). وقال أيضا: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ (الملك: 05). وقال أيضا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30).
فهذه الآيات وغيرها مما شاكلها؛ تفيد أن هذه الزينة إنما وضعت للناس، جميع الناس، فلا يتعلق بها مدح أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف بمقتضياتها ولوازمها الراجعة إلى قانون الانتساب الإيماني، وإن تعلق بها شيء من ذلك؛ فهو تعلق عام وليس خاصا. قال ابن القيم في تعليقه على الآيات: “فأخبر، سبحانه، عن خلق العالم والموت والحياة وتزيين الأرض بما عليها أنه للابتلاء”[25]. وقال سيد قطب مقررا هذه الحقيقة: “ونظرة إلى السماء كافية لإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء الكون، وأن صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي، وأن تصميمه قائم على جمال التكوين”[26].
ثم لأن الجمال التكويني لابد وأن تكون أشياؤه التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم[27]. يقول الدكتور توحيد الزهيري في تعليقه على آية الزينة السالفة في سورة الكهف: “بنص هذه الآية نعلم أن الجمال الذي تبديه الأشياء هو حقيقة موضوعية توجد خارج النفس الإنسانية، وتستند إلى عمل الهي هو “التزيين”، والغاية منه هو الابتلاء”[28].
كل هذه النصوص ناطقة بالمراد، مفيدة أن الجمال الابتلائي التكويني إنما هو جذوة من الكلمات التكوينية والمشيئة القدرية التي رسمت مقادير المخلوقات فقدرتها تقديرا، ثم شخصتها في الوجود لتكون كالدال على مكونها وخالقها قبل تصرف المكلف فيها. أما بعد ذلك التصرف؛ فلابد من استتباع تكليف يجر مسؤولية واختيارا جراء فعل العبد تجاهها، فإن كان فعلا إيجابيا محمودا ترتب عليه جمال تكليفي تعبدي، وهو في:
- جمال التكليف (أو الجمال التعبدي)
ينفرد الجمال التكليفي التعبدي عن عديله السابق بميزتين متلازمتين:
أولاهما: كونه قبساً من منظومة التكليف والاختيار عموما، حيث يوجد المدح والذم والحسن والقبح والثواب والعقاب، فلا خلاف في كون هذه المتقابلات إنما هي من لوازم الاختيار التعبدي عند المكلف، حيث يخرج من كونه عبدا مخلوقا قهرا واضطرارا، إلى كونه مكلفا مسؤولا طوعا واختيارا، فلا يبقى كالبهيمة المسيبة تسترسل في نيل لذاتها واقتناص شهواتها دون داع يقيد أو حامل يزع عن الوقوع في المحظور! ومجموع ذلك كله هو قصد الشارع العام من وضع الشريعة، كما قال أبو إسحاق: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”[29].
والثانية: أنه متصل بالعبد نابع من مشكاة الروح والوجدان المستقرة في قلبه في حال إيمانه، مستنده قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 08)؛ إذ ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذا التزيين نفسي متصل كما سطره الراغب سابقا، فخالف بذلك الجمال الابتلائي المنفصل؛ لارتباطه بأصول النعم المنصوبة في الكون لابتلاء المكلف: أيشكر أم يكون من الجاحدين! لكن يبقى الإشكال في قنواته الحاملة له المجسدة لمقتضياته في السلوك بعد ثبوت أصله في الباطن: ما هي؟
إن نظرة خاطفة إلى تواليف نظار التربية والسلوك توحي قطعا بوجود مفاهيم تداولية ضاربة بعمقها في صلب الجمال والحسن، غير أنها فروع عن زينة أصل الإيمان المستقر في الباطن، فكانت بالنسبة إليه منازل وقواعد تُظهر حقيقته في الخارج كشأن الجزئيات مع كليها الناظم لها عند المناطقة، حيث لا يتشخص ولا يتجسد إلا بها وفيها. وذلك مثل الصدق والإخلاص والتوحيد والشكر والحمد والرفق واللين والرحمة والتودد وصلة الأرحام وحسن الجوار… وغيرها من مكارم الأخلاق، مما تتواضع عليه العقول السليمة والفطر الصحيحة الراجعة إلى “التلبس من كل ما هو معروف من محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات”[30].
بيد أن، هاهنا، إشارة؛ وذلك أن لهذه العزائم الجمالية كلياتٍ عليا هي الممثلة لقناة الجمال التعبدي في التصور الإسلامي، تتمثل في الحمد والشكر والتوحيد. وإن كان الجميع ينضوي تحت حقيقة منازل الإيمان أو “عمومات العزائم”، إلا أن لهذه، دون الباقي، خصوصيةً جماليةً في نفس الخصوص، تظهر في كونها النافذة الأولى التي يطل منها العبد بقلبه على منظومة زينة الإيمان التي يقع فيها الحراك الجمالي الخاص، حيث التفاعل مع النعم الكونية الخارجية كما سيأتي مع أبي إسحاق.
ومن هنا أيضا كان حدها الاصطلاحي عند العلماء قد روعي فيه التداخل الاصطلاحي والمفهومي مع الحقيقة الجمالية عموما، كما يظهر من تعريف ابن القيم، حيث جُعِل كلٌّ من الشكر والحمد من أفرادها عنده. وكذلك الشوكاني، وكل من سار على دربهما في تذوق حقيقة المفهومين، ومقاصدها الجمالية. يقول الثاني في تعريف الحمد: هو “الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم”[31]، فالحمد هو مركز بؤرة هذا النوع من الجمال وقطب رحاه وإليه ترجع جميع تجلياته، فلا يزال العبد من خلاله يترقى كما قال ابن القيم: “من معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات، على جمال الذات. ومن، هاهنا، يتبين أنه سبحانه له الحمد كله”[32].
هل رأيت هذا الاستحواذ الشامل على معاني صفات الله وذاته وأفعاله سبحانه؟ كذلك كانت حقيقة منزلة الحمد وأسرارها التعبدية في وجدان العبد، حتى إذا انتقل إلى الثناء والشكر على صانع المخلوقات ومنعم النعم الكونية؛ صار جامعا في الباطن بين الحسنيين جالبا للمحبة الإلهية من خلال القناتين.
يسترسل ابن القيم في نفس السياق: “فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شكره على نعمه، وهو جمال باطن”[33]. والمعنيان معا سوف ينظمهما كلي التوحيد عند الشاطبي كما سيظهر في المباح قريبا. ثم، بعد ذلك، تأتي تجليات العمران الجمالية في الخارج بحسب ما تمليه عليها صفاتها الجمالية وعناصرها الشعورية في الباطن.
فالجمال الكوني مبعث شعوري للجمال التعبدي، وهذا مدلول له والآخر دليل عليه في معادلة جمالية متبادلة الطرفين طردا وعكسا في حركة العبد ومقاصدها التعبدية. ومن هنا استحال، في حقوق الله، فصل حق الربوبية عن حق الألوهية في منظومة التوحيد الوجداني، دون تقسيمات الكلام الجافة، وأنه لا محبة من العبد خالصة إلا بمجموعهما.
فمن هذا المسلك أيضا خرجت أقلام التشكيل الإيماني عبر التاريخ الإسلامي لترسم لوحات فنية تحكي فيها قصة عروج القلب عبر مدارج السالكين إلى الله رب العالمين. من مثل: منطق الطير[34] لفريد الدين العطار، وكشف المحجوب[35] للهجويري، ومدارج السالكين[36] للعلامة ابن قيم الجوزية، ورحلة الطير[37] لحجة الإسلام الغزالي، والتلال الزمردية[38] للعلامة محمد فتح الله كولن، وقناديل الصلاة: مشاهدات في منازل الجمال[39] مع جمالية الدين[40] لأستاذنا فريد الأنصاري… وغيرها كثير من “سمفونيات” الجمال التعبدي التي عزفتها ألسنة قلوب كثير من الربانيين قدماء ومحدثين!
خلاصة الأمر المجزئة في السياق: أن إدراك الجمال الكوني إنما تكفي فيه الفطرة[41] فقط؛ لأن أسبابه موضوعة بالقصد الابتدائي، كما قيل قبل، لاستدعاء متعة الناس من حيث هم كذلك على الإطلاق. وأما التعبدي فهو ذوقي انفعالي خاص تالٍ للأول لابد فيه من الخضوع لمبادئ التكليف؛ لأن الفطرة فيه قد تضعف عن معرفة الأسباب والشروط المقتضية له، وكذا الموانع العارضة فيه لقصد الشارع. ومن هنا سقط تذوق غير المسلم للصور التشكيلية في مهاوي الاستصنام التألهي للمخلوقات تارة، ولشهوات “الليبيدو” تارة أخرى! وقد نظمت الآية الكريمة: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30)؛ النوعين معا في أحسن مساق وألطف مذاق! ولها مزيد تقرير يأتي مع أبي إسحاق.