الدين والحياةسلايدر

عبادي: الحقوق التضامنية ….المطالبة بالحقوق يقتضي القيام بالواجبات

الدار/ خاص

أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء دراسة علمية محكمة للدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، همت تبيان مكانة حقوق الإنسان كمقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.

ولأهمية هذه الدراسة، سنعمل في موقع “الدار” على نشرها في سلسلة حلقات تعميما للفائدة، وشرحا للقول في هذا الموضوع الذي يكتسي راهنية كبيرة في سياقنا المعاصر.

غير أن التعامل مع هذه التحديات الثلاثة في أفق النهوض بها، والسعي نحو تيسير سبل تحققها، لابد له من مقتضيين منهاجيين:

ـ المقتضى الأول؛ هو المنطلقات التي ينطلق منها الفقيه المسلم؛ أي الباراديغمات Paradigmes والنماذج المعرفية. فينبغي أن يكون من الواضح أن الفقيه المسلم يريد تحقيق مرضاة الله، وتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة للجنس البشري، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية، هذه الأسرة الإنسانية الممتدة. لأنه قد سادت في أزمنة معينة نماذج أخرى فيها من الانسحاق أو الانغلاق ما فيها.

وإن من الباراديغمات والنماذج المعرفية التي يحق للمسلمين أن يفخروا بها: النموذج التعارفي المنطلق من قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات: 13). وهو نموذج يسعى بوازعه الإنسان المسلم؛ ذكرا كان أو أنثى، إلى تحقيق التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة الإنسانية الممتدة.. إنه نموذج يتجاوز النموذج المعرفي القائم على مجرد التسامح. فالتسامح يستدمج بين طياته أن هذا الآخر في درجة أدنى ولكن أنا أتسامح معه! أو أخطأ وأنا أتسامح معه! بيد أن التعارف فيه الحاجة المتبادلة والاحتياج المتبادل؛ مما يفسح المجال أمام التكميل والإثراء المتبادلين بين العالمين عوض التنافي والصراع.

ـ المقتضى المنهاجي الثاني؛ هو تحديد آليات التعاطي مع هذه المشاكل الثلاث، وتبين العلاقة الجدلية بين النماذج المعرفية التي تُشكل المنطلقات وبين الآليات المستعملة من أجل تحقيق الغايات المستهدفة أو الأهداف المتغياة.

ثانيا: حقوق الإنسان مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية

مع انبثاق الجيل الثالث من حقوق الإنسان، الحقوق التضامنية؛ كالحق في البيئة السليمة، والحق في السلام، والحق في التنمية، تبين أن مكّون الحقوق، يفتقر إلى التواشج مع مكون الواجب، في طفرة متجاوزة لما كان عليه الأمر في الجيلين السابقين من حقوق الإنسان، جيل الحقوق المدنية والسياسية، ثم جيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المرتكزين على البراديغم القائم على الحقوق فقط..

وسبب ذلك، على حد تعبير الباحث “Ben Saul”: “أن النضالات التي قامت بها حركة حقوق الإنسان ضد الاستبدادات المختلفة في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية، ضد النفاقات الاجتماعية، والإقصاء، ونقائص النضالات السالفة، والتي ارتكزت جميعُها، على مواجهة ما كان يفرضه المتنفدون من واجبات ظالمة على الأفراد، فقد بلورت حركة حقوق الإنسان، حذرا وحساسية تلقائيين، تجاه كل لغة فيها حضور لمفاهيم الواجب والإلزام، وهما حذر وحساسية مبرران، بالنظر إلى تاريخ هذه الحركات النضالي[3]“.

ومن هنا تأتي المعاناة التي ترافق السعي إلى تنزيل الجيل الثالث من حقوق الإنسان، والتي تستدمج في عين بنيتها، ضرورة الارتكاز على الواجبات أيضا، بإزاء الحقوق التي لا يمكن جلبها للأفراد إلا إذا كان لديهم الاستعداد للقيام بواجباتهم بهذا الخصوص، فمثلا لا يتصور النهوض بتنمية بدون انخراط الأفراد في هذا النهوض، من خلال القيام بواجباتهم بهذا الصدد.

مما يستدعي وجوب مواكبة هذه الحقوق أولا؛ بنسيج تأهيلي، تصوريا، وتربويا، ونضاليا، وتقويميا بطريقة قصدية، وإلا فستبقى الحقوق التضامنية مجرد شعارات. ومواكبتها ثانيا؛ بنسيج تشريعي احترازي، لحمايتها من الارتداد إلى أتون الدولانية (Etatism) من جديد كما يقول دون. “إي. إيبرلي” “Don. E. Eberly” في كتابه: (Building a community of citizen).

وجليّ أن هذا التواشج بين الحقوق والواجبات، من خلال الاستمداد من مختلف المرجعيات تأسيسا على مكتسب حقوق الإنسان في كونيتها، وعدم تجزيئها، يمكن أن يسهم في اختراع مفهوم دينامي للمواطنة في عالم اليوم المعولم، في منأى عن الشعاراتية، وفي حرص على نحث عقد اجتماعي، فيه التجانف عن الاقتصار على الاستراتيجيات الفوقية، والتشريعات غير المرفقة بالتدابير الإجرائية التنزيلية على أرض الواقع، في مراعاة لكافة مقتضيات السياق.

وبالإضافة إلى أهميتها العلمية، والمعرفية، ركز التداول المعاصر حول استثمار مقاصد الشريعة كثيرا على المزاوجة بين النص والسياق، وبين الأحكام ومناطاتها، مع الحرص على توظيف نظرية المقاصد في صلتها القوية بمبدأ المصلحة.

 كما رام هذا التداول مدّ الجسور بين الإسلام والقيم الكونية ذات الصلة، وبوجه خاص، بمنظومة حقوق الإنسان، وقضايا التنمية الشاملة والمستدامة، ومختلف الأنساق الفكرية، والثقافية الكونية.

 وذلك لأن التجانف وعدم استحضار هذه المعطيات، التي تعد بمثابة غايات ومقاصد عامة للشريعة، أمر في غاية الورود، إذا لم تراع أثناء عملية تنزيلها، وتكييفها مع نسيجها وأحكامها، مواءمتها لمختلف الأسيقة الحضارية، والأنثربولوجية المستقبِلة.

وانسجاما مع كون الفكر المقاصدي، فكراً كليا، واقعيا، مرنا، وظيفيا، استشرافيا، يأبى الانحسار في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية؛ في حرص على المواءمة باتساق وتواشج، بين روح ومقتضيات الدليل الكلي أو الأصلي، وإمكانات الدليل الجزئي أو الفرعي، فإن كانت حقوق الإنسان تمثل مقصدا أساسيا من مقاصد التشريع الإسلامي، لارتكازها على مبادئ كلية من قبيل التكريم، والاستخلاف، والمساواة، والعدل، والحرية، والكرامة لهذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، مع الالتزام بالسبل والوسائل التي تحقق هذه المقاصد، وتحافظ عليها وتمنع من إهدارها أو ضياعها. ولما كانت مصلحة ضمان حقوق الإنسان من أعظم المصالح، فلا خلاف يمكن أن يثور حول محورية هذا المقصد في توجيه الأحكام والاجتهاد.

زر الذهاب إلى الأعلى