ضمن سلسلة تصدرها الرابطة المحمدية للعلماء… جوانب من التاريخ العمراني لجامعة القرويين
الدار/ خاص
نشرت الرابطة المحمدية للعلماء ببوابتها الرقمية مقالا متميزا للدكتور جمال بامي، رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ووحدة علم وعمران بالرابطة، تناول فيه جوانب من التاريخ العمراني لجامعة القرويين ومختلف تجليات الحركة العلمية بهذا الصرح العلمي المغربي، الذي يجسد النبوع والابداع المغربيين في مجال العلم والبحث.
كتب العلامة سيدي محمد عبد الحي الكتاني في كتابه “ماضي القرويين ومستقبلها”، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006) عن تاريخ بناء جامع القرويين قائلا: كان موضع جامع القرويين كما لمؤرخي المغرب كصاحب الأنيس المطرب وغيره، “أرضا بيضاء يعمل بها أصناف الجبص”، زاد صاحب “الجذوة”، وبها أصناف من الشجر لرجل من هواة. كان الهواري قد حازها والده من قبله حين بنيت المدينة بوجه صحيح جائز”، فأتى وفد القيروان إلى فاتح المغرب البضعة الطرية النبوية، الإمام إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن فاطمة الزهراء عليها وعلى أبيها السلام، في جمع كثير بعيالهم وأولادهم، فأنزلهم حوله بعدوة القرويين، كذا في “الأنيس”، وفي تاريخ فاس لأبي القاسم جنون، واعتمده صاحب “الجذوة”، إن الوارد كثر على فاس في أيام يحي بن محمد بن إدريس، وكان منهم من القيروان مع أهل بلده محمد بن عبد الله الفهري القروي، أحد الفقهاء، فمات وترك البنتين وهما، فاطمة ومريم، فحصل لهما مال كثير طيب بالإرث من والدهما، ورغبتا أن تصرفاه في وجوه من أعمال البر، فأعلمت باحتياج الناس إلى جامع كبير في كل عدوة من فاس لضيق الجامعين القديمين بالناس، فشرعت فاطمة في بناء جامع القرويين ومريم في بناء جامع الأندلس.. وكانت فاطمة امرأة مباركة صالحة..
شرعت أم القاسم فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري القيرواني ثم الفاسي في حفر أساس المسجد وبنائه يوم السبت مهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين، فحفر في أرضه كهوف، وأخذ منه التراب والحجارة الرخوة لبنائه والرمل الأصفر الطيب، وحفر فيه بئر لأخذ الماء، فكان البناءون يسقون منها ببناء الجامع المكرم، وبني من أربع بلاطات من قبلة إلى جوف، وفي “الأنيس المطرب بروض القرطاس” لابن أبي زرع أن المحراب جعل في موضع الثريا، وجعل بمؤخره صحن صغير وصومعة غير مرتفعة بموضع القبلة التي على رأس العنزة اليوم، وجعلت طول المسجد من الحائط الغربي إلى الحائط الشرقي مائة وخمسين شبرا، وتم على نحو ما أرادته وذلك في أيام السيد الإمام أمير المؤمنين السلطان أبي زكرياء يحي بن إدريس، وقد كان ملكا محبوبا، لذلك كثرت في أيامه العمارات بفاس وقصد إليها الناس من الأندلس وإفريقية وسائر بلاد المغرب.. فضاقت فاس بسكانها حتى بنى الناس الأرباض بخارجها، وبنى السلطان يحي بنفسه الجوامع والحمامات والفنادق والحوانيت للتجار..
ويقول الأستاذ الحسن السائح في كتابه “الحركة العلمية بجامعة القرويين، منشورات الإسيسكو) : ” وعثر أخيراً على لوحة نحت عليها داود بن إدريس كمؤسس للقرويين، بينما تذكر المصادر التاريخية أن فاطمة الفهرية أو فاطمة الهوارية هي التي أسستها. وتألف المسجد أول الأمر من أربعة بلاطات ابتداء من القبلة، ولكل بلاط 12 قوسـاً مـن الشـرق إلـى الغـرب، ثـم فـي عهـد الأمير أحمد بن أبي بكر الزناتي، وبإعانة مالية من الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث، زيد في بناء القرويين فبلغت ثلاثة عشر اسكوباً وثمانية عشر بلاطاً، ونقلت الخطبة إليها..
ويفيدنا العلامة الكتاني في كتابه “ماضي القرويين ومستقبلها”، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006، ص24-25) أنه لما بني مسجد القرويين المبارك على عهد الأدارسة جعلت صومعته حيث المحل المعروف اليوم بالعنزة، ثم لما زيد في المسجد أيام حكم الزناتيين هدمت الصومعة التي كانت به، وبني به الصومعة التي به الآن، ولما شرع في بنائها جعل سعة كل وجه منها إحدى وعشرين شبرا، على ما في “جذوة الاقتباس” لابن القاضي، وفي “الأنيس المطرب” لابن أبي زرع سبعة وعشرون، قال: فيحتمل في الأربع جهات مائة شبر واحدة وثمانية أشبار وهو الذي في ارتفاعها، وكذلك يجب أن تكون من جهة البناء والنظر الهندسي.. ويضيف العلامة الكتاني: “والذي عددناه اليوم بعد كون شكلها مربعا أن طولها 25 شبرا قبل، إذا ضرب العدد في أربعة فهو طول ارتفاعها، وعليه فارتفاعها أشبار مائة، كما أن عدد درجاتها مائة واثنان بالاستقراء والتتبع خلافا لابن أبي زرع حيث قال: يصعد إليها من مائة درجة ودرجة.. وتجدر الإشارة إلى أن الباحث عثمان عثمان إسماعيل في دراسته الموسوعية حول تاريخ وآثار شالة الإسلامية بالرباط استعمل هذه القاعدة الهندسية، وهي أن طول صومعة القرويين يساوي أربع مرات عرضها، وطبّقها ليستنتج أن صومعة عتيقة بخلوة بشالة تعود إلى العصر الزناتي، أي نفس عصر بناء صومعة القرويين. وهذا استنتاج انفرد به الباحث عثمان اسماعيل وخالف عمل كل من هنري باسي وليفي فروفنصال اللذان ينسبان الصومعة المذكورة للعصر المريني في دراستهما شالة : مقبرة مرينية (مجلة هسبيريس، 1922)
وقد جعل باب صومعة القرويين من جهة القبلة وكتب عليه في مربعة بالجص وحشاه اللازورد : “بسم الله الرحمان الرحيم، الملك لله الواحد القهار، هذا ما أمر به أحمد بن أبي سعيد الزناتي، هداه الله ووفقه، ابتغاء ثواب الله وجزيل إحسانه، وابتدأ العمل في هذه الصومعة في يوم الاثنين غرة رجب من سنة أربع وأربعين وثلاثمئة. وكتب في طرف المربعة : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وجعل مربعة أخرى من جهة الصحن فيها مكتوب : “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم” (الزمر، 53)، وقد طمس كل هذا.. وقد غشيت بابها بعد ذلك بصفائح النحاس الأصفر، وتم العمل في بنائها في شهر ربيع الأول من سنة خمس وأربعين وثلاثمائة حسبما أخذ من التربيعة المقوسة بها من جهة الصحن، وجعل في أعلاها قبة صغيرة، ووضع في ذروتها تفافيح مموهة من ذهب في زج من حديد، وركب في الزج المذكور سيف الإمام إدريس بن إدريس، فهو في الذروة التي تحتها القبة المذكورة لجلوس المؤذنين لإشاعة الأذان في أوقاته.. وكان مبيت المُراعي لأوقات الليل حتى يطلع الفجر لإقامة الصلاة وأوقات الأذان، وبأذانه يقتدي سائر المؤذنين بصومعة المدينة يقلدونه على العادة من قديم الزمان..
وقد شابهت القرويين في بنائها مسجد قرطبة، لذلك كانت القبلة على السمت، ثم ظهر بعد تقدم علم الفلك ضبط السمت، ميل القبلة، فرسمت القبلة الصغيرة تشير إلى الانحراف، ووسع الزناتيون جامع القرويين فزادوا بها، ونقلوا الخطبة إليها وهدموا الصومعة الأولى وبنوا مكانها أخرى، وفي المنارة بيت للمؤقت ورخامة شمسية وساعات رملية، وفي سنة 388 هـ صنع المظفر بن المنصور بن أبي عامر منبرا للقرويين من عود الأبنوس والعُناب حسبما أفادنا به العلامة الحسن السائح في كتبه عن الحركة العلمية بالقرويين.
عهد يوسف بن تاشفين
وفي عهد علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي أضاف القاضي عبد الحق بن معيشة زيادات أخرى بعدما قام بشراء أملاك جديدة فأصبحت القرويين تتألف من 16 أسكوباً و11 بلاطاً”، وعلى الرغم من أن المرابطين غيروا كثيرا من شكل الجامع كما كان على أيام الزناتيين لكنهم بذلوا جهدا كبيرا في الحفاظ على الأصول الأولى للجامع المبارك، وذلك باحتفاظهم على تصميم البلاطات الموازية لجدار القبلة، كما صنعوا منبرا جديدا للقرويين خلفا للمنبر الزناتي.. (عبد الهادي التازي. جامع القرويين.المجلد الأول،بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1972)
يقول الأستاذ الحسن السائح في كتابه عن “الحركة العلمية في القرويين” : ويمكن القول أنه في عهد المرابطين ولد القرويين من جديد، فقد ” أولوا الجامع عناية كبيرة فزاد فيه الأمير علي بن يوسف المرابطي زيادة كبيرة وأعاد بناء أبواب الجامع، كما وضعت القباب الصغيرة المزخرفة في سقف رواق المحراب، وقام المرابطون بإجراء إضافات على المسجد فغيروا من شكل المسجد الذي كان يتسم بالبساطة في عمارته وزخرفته وبنائه، إلا أنهم حافظوا على ملامحه العامة.
المرابطون
ولعل أبرز ما تركه المرابطون في مسجد القرويين هو المنبر الذي لا يزال قائما إلى اليوم “.” ويُعدّ تحفةً نادرةً من التّحف الإسلامية العريقة، و ازداد هذا التطور في عهد الموحدين خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، حيث تحول مسجد القرويين فيها إلى جامعة ذات بعد إنساني، وأصبحت مركزا كبيرا للعلم والإبداع. وفي عهد الموحدين تم نصب الثّريا الكبرى التي ما تزال إلى اليوم شاهدة على الحضارة الموحدّية وروعة الفن والإبداع المغربي.. يقول العلامة الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها” عن هذه الثريا الشهيرة :” كانت بموضعها قبل عملها به ثريا مثلها في الجرم فتكسرت من طول الدهر فنقصت وسُكّت وزيد عليها نحاس مثلها، وصنعت هذه في أيام الفقيه الخطيب الصالح أبي محمد عبد الله بن موسى المعلم، وهو الذي اجتهد في عملها.. وفي زنة هذه الثريا سبعة عشر قنطارا وربع ربع قنطار، من اثنين وثلاثين شبرا..”
ونستفيد من الحسن السائح في كتابه عن “الحركة العلمية بجامعة القرويين” أنه “كشف حديثاً عن الفن الأندلسي الذي كان يزين القرويين من جص مقرنص ونقش بورقة الذهب، واللازورد، والأصبغة المتعددة من أزرق وأحمر، ومغرة صفراء من مح البيض الذهبي، وأشكال الزجاج المبلط بدهان كامد للتخفيف من حدة انعكاسات الإشعاع، كما كانت أشكال الزجاج في الشماسات التي بجوانب القبلة، ويذكر ابن أبي زرع في “روض القرطاس” أن الفقهاء والأشياخ خشوا أن ينتقد الموحدون هذا الفن فيحطموه، فنصب الحمامون على النقش والتذهيب الذي فوق المحراب وحوله بالكاغد، ثم لبسوا عليه بالجص وطلى بالبياض. وجهز المسجد بمستودعات لأموال الجامع وأمانات الناس، وحصنت بخشب الأرز، وصفحت بصفائح حديدية وبجانب القرويين دار للوضوء، بها خمسة عشر بيتاً مع طاق في سقف كل بيت للإنارة، وأنبوب نحاسي لصب الماء في نقير محفور من حجر، وأصغر منها دار الوضوء للنساء.
وأقيمت العنزة التي بالصحن ، وهي محراب خشبي تجلت فيها آيات الفن من دقة الخرط والنقش، كما صنعت السقاية المنمقة بالجص والحجر المنجور وأنواع الصبغة، وبجانب المحراب مقصورة بابها من خشب الأرز. يقول العلامة محمد عبد الحي الكتاني في كتابه “ماضي القرويين ومستقبلها” عن هذه العنزة : “العنزة عبارة عن المحل الذي يصلى فيه أيام الصيف كان موضعها في القديم صومعة ثم لما وسع الجامع ونقلت الصومعة إلى مؤخره جعل في محل الصومعة عنزة من خشب الأرز ألواحا ساذجة، في أعلاها كتابة: “صنعت هذه العنزة في شهر شعبان المكرم سنة أربع وعشرين وخمسمائة”. وأما العنزة التي بها الآن فصنعها الفقيه الخطيب قاضي الجماعة وخطيبها أبو عبد الله بن أبي الصبر أيام ولايته القضاء بمدينة فاس، وأنفق فيها من مال الأحباس، وفرغ من عملها وركبها في موضعها يوم السبت الخامس من ربيع الأول سنة 689ه. وأما القبة التي في رأس العنزة في وسط الصحن فبناها المظفر بن المنصور بن أبي عامر، حاجب هشام المؤيد، لما تغلب على فاس سنة 388ه..
ويفيدنا الحسن السائح في “الحركة العلمية بجامعة القرويين” أنه “بمسجد القرويين 300 سارية، عشرة منها من المرمر وهي متقاطعة متوازية في أساكيب، ووسطها الثريا التي كانت ناقوساً كبيراً غنمه المسلمون في إحدى غزواتهم، ونصبت بدقة بحيث ينظر منها جميع أبواب الجامع، وبه 21 بلاطاً و130 ثريا مختلفة الألوان والصناعات والمصادر. وهكذا زخرت القرويين بروائع الفن المزدوج الأندلسي والمغربي الذي بلغ ذروته في القرن الخامس الهجري، فيه رقة ورشاقة الفن الأندلسي وهيبة ورزانة الحرف المغربية.
ولاشك أن هذا الجامع المبارك يعد عنوانا للفن المعماري الذي احتفظ بمظهره ومكانته من عهد إلى عهد ومن دولة إلى أخرى في تاريخ هذا البلد الكريم. وما زالت بناية القرويين تُقاوم الزمن منذ أكثر من أحد عشر قرنا بفضل من الله. وما يزال البناء القديم يحتفظ بالطابع الأصلي، وما تزال الصومعة التي بنيت في عهد الزناتيين. وقد خص المغاربة جامعة القرويين ببناءات إضافية كمقصورة المفتي وزاوية الحزابين المعروفة بالخلوة والمدرسة لإيواء الطلبة، والمرصد الفلكي وخزانة الكتب والكُتّاب لتعليم الأطفال ..
وكتب المؤرخ ابن أبي زرع في كتابه “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” فصلاً طويلاً عن جامع القرويين وما أضيف إليه في كل عهد منذ تأسيسه حتى وقت تأليف الكتاب سنة 726هـ.. ومعلوم أن بن أبي زرع عاش خلال العصر المريني، وهو العصر الذي عرف فيه مسجد القرويين إضافة خزانة المصاحف التي في قبلة الجامع، أمر بها السلطان أبو عنان المريني.. وتبقى أهم إضافة نوعية خلال العصر المريني هي مكتبة القرويين العمومية التي أسست بالمستودع من جهة خصة العين يدخل إليه من أعلاه، وينسب بناؤها للسلطان أبي عنان الذي عمرها بالكتب المحتوية على أنواع العلوم كعلوم الأديان والأبدان والأذهان واللسان، وبقيت هذه الخزانة المباركة تقوم بدورها إلى زمن أحمد المنصور الذهبي السعدي الذي اهتبل بإحياء مكتبة القرويين اعتناء باهظا كما يقول العلامة الكتاني الذي يؤكد أن الشيخ ميارة تحدث عن هذه الخزانة في “معين القارئ” عندما كان بصدد الحديث عن شيخه المقري وابن أبي نعيم.. وقد اهتم العلويون اهتماما بالغا بجامع القرويين إصلاحا وترميما خصوصا زمن السلطان محمد بن عبد الله، والسلطان المولى سليمان، ثم في عهد الحسن الأول، وازدهرت الحركة العلمية خلال العصر العلوي ازدهارا كبيرا شمل العلوم النقلية والعقلية، واستمر جامع القرويين في أداء رسالته العلمية والإنسانية مع بقاءه كأثر عمراني شاهد على عراقة الحضارة في هذا البلد الكريم.