انفجار مرفأ بيروت وفيروس كورونا وأزمة اقتصادية… كيف تراكمت الهموم على رؤوس اللبنانيين؟
بعد مرور شهرين على انفجار المرفأ، لا يزال سكان أحياء مدينة بيروت القديمة يعيشون حالة من الحزن، ولا يخفون غضبهم الشديد إزاء الطبقة السياسة اللبنانية. فهناك من يحاول ترميم بيته قبل قدوم فصل الشتاء ومن لا يستطيع القيام بذلك بسبب نقص الإمكانات، فيما ألقت الأزمة الاقتصادية الخانقة بظلالها على اللبنانيين، متسائلين ما ستحمله الأيام المقبلة وسط تفشي وباء كوفيد-19 وانخفاض سعر الليرة أمام الدولار واستمرار الفراغ الحكومي.
لم تندمل جروح بيروت بعد مرور شهرين على انفجار مرفئها في 4 غشت موديا بحياة 193 شخصا حسب آخر حصيلة رسمية.
وقد اضطرت عشرات العائلات، خاصة تلك التي تقطن العمارات القريبة من المرفأ أو المطلة على البحر، إلى مغادرة بيوتها جراء الانفجار وترك كل ما فيها من أغراض وأثاث لأنها إما تضررت بشكل كبير من شدة الهزة أو لأنها أصبحت مرشحة للانهيار في أية لحظة.
ولا يزال الغضب سيد الموقف في العاصمة اللبنانية حيث جدران بعض العمارات والبيوت العتيقة وكذلك المحلات التجارية تحمل ندبات الانفجار الذي وصل صداه إلى قبرص المجاورة.
ويكفي أن تتجول في منطقة الجميزة المكتظة بالسكان وبالمقاهي الليلية لكي ترى آثار الانفجار الذي حول بعض المنازل القديمة إلى أنقاض تسببت في قطع بعض الطرقات لدرجة أن حركة المرور فيها أصبحت شبه مستحيلة.
المشهد لا يختلف كثيرا حول شارع “الوزير خليل أبو أحمد” أو شارع “ميشال بسترس” في حي الأشرفية بقلب بيروت القديم حيث نوافذ بعض العمارات وأبواب الشرفات الزجاجية تحطمت كليا. ما جعل سكان هذه المنازل يغادرون إلى أن يتم إصلاحها.
وليس بعيدا من هذا المكان، وبالتحديد في شارع “سرسق” بالأشرفية حيث تتواجد قصور نائمة على كتف التاريخ، التقينا بالسيدة نجوى رايس التي كانت منهمكة مع موظفين آخرين في إعادة ترميم منزلها.
المنزل يشبه قصرا صغيرا مكون من ثلاثة طوابق، تم بناؤه في ستينيات القرن الماضي بفضل مواد نادرة مثل الزجاج الملون والخشب الفاخر والرخام. كان الحزن والغضب ظاهرين على وجهها بسبب الدمار الذي طال ببيتها.
“مستقبل لبنان عبارة عن علامة استفهام”
وقالت السيدة لفرانس24: “هذا المنزل له دلالة معنوية كبيرة بالنسبة لي لأن جميع مكوناته مثل الأبواب الحديدية والنوافذ المصنوعة من الخشب الراقي والزجاج الملون كانت متواجدة في منزل جدي الذي استأجره للجنرال الفرنسي هنري غورو (1867-1946) عندما جاء إلى بيروت في عام 1919 إبان فترة الانتداب الفرنسي”.
وأضافت: “هذا القصر الصغير كما أسميه صمد أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية وخلال حرب لبنان، لكنه للأسف لم يصمد أمام انفجار المرفأ، حيث انهارت أجزاء منه في ظرف دقيقتين”.
وتقدر رايس تكلفة أعمال الترميم بحوالي مئة ألف دولار فضلا عن أنها بحاجة إلى وقت طويل لكي تعيد للمنزل جماله ومنظره السابقين.
وواصلت حديثها بحيرة، قائلة: “أشعر بكراهية بالغة وبحقد عميق إزاء الطبقة السياسية اللبنانية لأن الانفجار الذي وقع كان سببه الإهمال وانعدام روح المسؤولية والواجب الوطني لدى جميع حكام هذا البلد دون تفرقة. لم أحصل على دولار واحد من الحكومة لإعادة ترميم المبنى. هم لا يبالون بما يعيشه الشعب من معاناة ومآس. فبعد وباء كوفيد-19 الذي أدى إلى تراجع الاقتصاد بشكل مخيف وانخفاض القدرة الشرائية بسبب التضخم المالي (دولار واحد يساوي حوالي 8000 ليرة لبنانية في السوق السوداء)، جاء الانفجار ليقضي نهائيا على أحلام التغيير وعلى حياة تمنيناها أن تكون أفضل”.
وتابعت: “رغم مرور شهرين على الانفجار، لا نعرف ماذا وقع تحديدا. ما هو السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذلك. التحقيق لم يحرز أي تقدم، كباقي التحقيقات السابقة. ففي البداية عندما يقع حادث مؤلم، ترى السياسيين يعبرون عن حزنهم وقلقهم. لكن بعد أيام معدودة، كلهم (السياسيون) ينسون ما حدث ويرمون مشاكل اللبنانيين تحت السجاد”.
“سيبقون في بيوتهم وسيتأقلمون مع الوضع الجديد”
ورغم المتاعب وغلاء المعيشة وغياب الأفق، نجوى رايس مصرة على إعادة بناء منزلها لأنها “ترعرعت فيه ويحمل بالنسبة إليها دلالة روحية لا تقيم بالمال”. وقالت: “أدرك بأن المستقبل في لبنان يتمثل في علامة استفهام. لكن الشهرين المقبلين حاسمان. فإما يتم تشكيل حكومة تكنوقراطية تباشر العمل بسرعة وتحل مشاكل الناس بجدية، وإما ينهار لبنان كليا ويذهب إلى الهاوية. لكن للأسف أخشى أن الحل الثاني هو الذي سيفرض نفسه علينا”.
من جهتها تخشى ديان سوايا، وهي مهندسة معمارية تتابع أشغال ترميم منزل صديقتها نجوى رايس، أن تفقد الأحياء التي تضررت جراء انفجار مرفأ بيروت من روحها القديمة ومن قيمتها المعمارية. كما تخشى أن يبيع بعض الملاك منازلهم لمضاربين عقاريين كونهم لا يملكون المال الكافي لإعادة بنائها أو ترميمها.
رغم ذلك، “الأمل لا يزال متاحا خاصة بعدما تأسست جمعية تضم معماريين ومختصين في مجال الأثار، فهي تنشط في هذه الأحياء القديمة وتحاول أن تمنع المضاربين في مجال العقار عن الاستحواذ على المنازل العتيقة”، تفسر هذه المهندسة المعمارية التي أكدت أن “المناطق الغنية معماريا وتاريخيا هي التي تأثرت للأسف من انفجار الرابع من أغسطس/آب”.
من بين هذه المناطق، حي الأشرفية والجميزة ومار ميخائيل وحي المستشفى الأرثوذكسي وشارع الجمهورية وأماكن أخرى مجاورة لها. فيما أشارت المهندسة إلى أن ملاك المنازل التي تقع في هذه الأحياء لن يتركوها لأنهم لا يملكون أي ملجأ آخر، “سيبقون في بيوتهم وسيتأقلمون مع الوضع الجديد مهما كانت الأضرار المادية التي لحقت بهم”.
“كل شيء انتهى بالنسبة لي”
تيريز حبيب واكد تسكن في حي الجميزة. ورغم أن أجزاء كبيرة من منزلها تأثرت بالانفجار، إلا أنها ترفض بيعه أو تركه نهائيا. ولحسن حظها لم تكن متواجدة بداخله خلال انفجار المرفأ، لكن أخيها (67 عاما) الذي يسكن في الطابق الرابع أصيب بجروح بالغة على مستوى اليدين والرأس والوجه، وهو حاليا يتعافى في قرية جبلية.
وتنوي تيريز ترميم منزلها بسرعة والعودة إلى العيش فيه في أقرب وقت ممكن حسب تعبيرها. وعندما سألنها عن شعوها بعد مرور شهرين على الانفجار، ردت قائلة: “أنا حزينة جدا. ما دخلت المنزل حتى غمرت عيني الدموع. أشعر بأن قلبي سينفجر. لا أستطيع أن أشرح هذا الإحساس لأنني ربما حزينة أيضا بسبب ما وقع لأخي وزوجته ولكل الناس الآخرين”.
وتابعت: “كلما وجد أخي نفسه وحيدا، فكر في الانفجار ثم بكى، خاصة أنه لا يستطيع تحريك يديه أو تناول الطعام أو شرب المياه بمفرده”. فيما أشارت إلى أنها لم تعد تنظر إلى الحياة بنفس التفاؤل بعد ما حدث في 4 أغسطس/آب. وقالت: “حياتي تغيرت. أشعر بأنني أعيش مثل إنسان آلي. أنظر إلى الأشياء دون إحساس. كل شيء انتهى بالنسبة لي ولا أبالي عندما أرى المنزل في هذا الوضع. أنتظر من الجيش أن يساعدني ماليا كما وعدنا لكن لغاية الآن لم نستلم منه أي شيء”.
“يعيش في هذه الأحياء الفقراء والأغنياء والمثقفون والعمال البسطاء والفنانون…”
تشعر المهندسة المعمارية ديانا سوايا بـ “الحزن والانهيار” لأن “الانفجار لم يدمر فقط المنازل والمباني بل دمر أيضا النسيج الاجتماعي والعيش المشترك الذي كانت تتميز به هذه الأحياء”.
وقالت: “يعيش في هذه الأحياء الفقراء والأغنياء والمثقفون والعمال البسطاء والفنانون وكل فئات المجتمع. هي أحياء منفتحة على جميع الديانات والمعتقدات والثقافات ولا توجد أية تفرقة بين المسلمين والمسيحيين أو الأرمن وديانات أخرى. فكلهم يعيشون مع بعضهم البعض ولا أحد يحاول أن يتعدى على الآخر أو يفرض عليه أفكاره أو طريقة عيشه. لكن أخشى أن يغير الدمار الذي لحق بها التركيبة السكانية في المستقبل القريب”.
من شارع سرسق حيث يتواجد متحف نيكولا إبراهيم حيث دمرت أجزاء كبيرة منه، ذهبنا مشيا على الأقدام إلى ساحة الشهداء في قلب بيروت، حيث شاهدنا عددا كبيرا من المنازل والمحلات التجارية قيد الترميم، فيما كنا نسمع عن بعد أصوات المجرفة وآلات بناء وترميم البنايات والمحلات.
الحركة الاقتصادية تراجعت كثيرا في لبنان بسبب انتشار وباء كوفيد-19 كما تراجعت قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار. الأمر الذي تسبب في تراجع الخدمات الاجتماعية العامة والمعونات المالية التي كانت تقدمها الدولة سابقا لأصحاب الدخل الضئيل والعاطلين عن العمل.
وما زاد الطين بلة هو الانفجار الذي وقع في المرفأ والذي شل الحركة الاقتصادية بشكل كامل وجعل المستثمرين الأجانب، سواء كانوا من أوروبا أو من دول الخليج، يختارون وجهات اقتصادية أخرى تناسب أكثر مصالحهم.
“أتمنى أن يضيء النور طريقك وتتغلب الفرحة على أحزانك”
وأمام تردي الوضع الاقتصادي والصحي وغياب الحقيقة في حادث انفجار مرفأ بيروت، يعبر سكان بيروت عن غضبهم وعن كرههم “العميق” كما يقولون للطبقة السياسية عبر كتابة شعارات ورسوم على جدران العاصمة، مثل الكاريكاتور الذي يصور رجلا سياسيا لبنانيا مجهول الهوية وهو تحت عذاب المشنقة مرفوقا بنص صغير كتب بالأسود “لإعدام”.
فيما دونت شعارات أخرى تكريما لضحايا الانفجار مثل الرسم الذي يمثل شجرة الأرز التي ترمز إلى لبنان حيث كتب على أوراقها المتناثرة وبألوان مختلفة أسماء كل الذين قتلوا جراء الانفجار فيما تم وضع شموع أمام هذا الرسم تكريما لأرواح الضحايا.
أما على جدار آخر، فلقد تم في أول أكتوبر تدوين نص باللغة الإنكليزية موجه لشخص مجهول ويحتوي على الجمل التالية: “أتمنى أن تجد روحك السلام ويصل قلبك إلى المنزل. أتمنى أن يضيء النور طريقك وتتغلب الفرحة على أحزانك وجروحك الماضية”.
وصلنا إلى ساحة الشهداء وهي خالية من الناس، عدا تجمع بعض الطلبة من الجامعة الأمريكية في بيروت وسط انتشار مكثف لعناصر الشرطة اللبنانية.
مغادرة البلاد، حلم يتقاسمه الكثير من اللبنانيين
وقالت الطالبة في مجال الهندسة دانا هاشي (18 عاما): “لا زلت أعاني من الناحية النفسية من تداعيات الانفجار. رغم أن والدي أنهى أشغال ترميم المنزل، لكن أشعر بأنني لن أنسى ما حدث في 4 غشت. أشعر أن هناك حاجة ماسة لتغيير الكثير من الأمور في بلدنا. المواطنون، خاصة فئة الشبان، يبذلون قصارى جهدهم لتحسين أوضاعهم، لكن حكومتنا للأسف غائبة عن الوعي ولا تبالي بما آلت إليها الأوضاع”.
ووجهت دانا نداء للسلطات لكي “تكشف الحقيقة بشأن انفجار مرفأ بيروت ومن يقف وراءه”. لكنها في نفس الوقت متأكدة من أن الحكومة لن “تنطق ولو كلمة واحدة بل ستكذب على اللبنانيين كما اعتادت القيام بذلك منذ ثلاثين سنة”.
تحلم دانا مثل عدد كبير من شبان لبنان بمغادرة البلاد والعيش في الخارج. ومن بين الأسباب التي جعلتها تفكر في ذلك، تدهور الوضع الاقتصادي وانعدام فرص العمل وعدم وجود أي مستقبل في لبنان، حسب رأيها.
“لبنان سنة صفر”، معرض فني لجمع التبرعات وإسعاف المتضررين
بالمقابل، حلم الهجرة لم يراود نبيل دبس، بل بالعكس فقد عاد إلى لبنان بعد 20 عاما من الهجرة في بريطانيا حيث كان يعمل في قطاع البنوك.
بادر نبيل بتنظيم معرض في فندق “هوس أرت” بحي الجميزة بهدف جمع تبرعات لمساعدة العائلات الفقيرة التي تضررت من الانفجار والصليب الأحمر اللبناني الذي يقدم مساعدات إنسانية لعشرة آلاف عائلة أخرى.
وقال لفرانس24: “الانفجار دمر كل ما يمثل الابتكار والثقافة والفن. نريد أن نتوحد ونحول الغضب إلى جبهة ثقافية. لذا طلبنا من بعض الأصدقاء الفنانين الكبار من أصول عربية وأفريقية المشاركة في المعرض عبر رسم لوحات فنية يتم بيعها في المزاد العلني ببيروت ولندن”.
وواصل: “بفضل الموسيقى والمعرض، بدأنا نشعر بنوع من الراحة بعد الحزن العميق الذي انتابنا جراء الانفجار”. وعاتب نبيل دبس السياسيين اللبنانيين الذين “سرقوا البلد ولا يزالون يتصارعون مثل الذئاب من أجل قطعة من لحم الخنزير”، معتقدا أن “الحل يكمن في تغيير النظام بالكامل وفي إيجاد طريقة جديدة من أجل العيش المشترك”.
ويتمنى نبيل دبس أن يكون المعرض الذي ينظمه لغاية 14 أكتوبر تحت عنوان “لبنان سنة الصفر” نقطة انطلاق لحياة جديدة ترتكز على أسس قوية ويستطيع أن يعيش كل لبناني فيها بكرامة ويتمتع بجميع حقوقه.
وإذا كان انفجار 4 غشت خلف الحزن والغضب عند بعض سكان الأحياء القديمة في بيروت، فالأزمة الاقتصادية زادت من مآسي اللبنانيين وألقت بظلالها على غالبية الشعب اللبناني الذي لا يعلم إلى أين يذهب.
المصدر: الدار– أف ب