التعليم عن بعد .. أزمة كورونا فرصة للارتقاء من ضيق الاضطرار إلى رحابة الاختيار التربوي المكمل
شكل التعليم عن بعد “الوضع الطبيعي الجديد” في منظومة التربية والتكوين إبان فترة الحجر الصحي، ثم كاد يصير خيارا هامشيا مع مقدم الموسم الدراسي الحالي (2020-2021)، بعد أن عبرت 80 في المائة من الأسر المغربية عن تفضيل نمط التعليم الحضوري. ولأن الأساليب البيداغوجية، ومعها الأوضاع الاجتماعية والنفسية للأسر، تقف عاجزة أمام تقلبات الوضع الوبائي وتبعاته، فلا ينبغي تفويت فرصة اغتنام هذه الأزمة لتجويد التعليم عن بعد باعتباره اختيارا تربويا مكملا للتعليم الحضوري.
ويذهب العديد من الخبراء في مجالات الاقتصاد والإجتماع والسياسة إلى أن التعامل مع الأزمة الصحية الحالية وتداعياتها يستلزم مراعاة الشروط الأولية التي كانت حاضرة قبل الأزمة، ولعل استحضار هذا الجانب حين تناول موضوع التعليم عن بعد بالمغرب بات من أوكد الأولويات، على اعتبار أن معرفة الأرضية المسبقة للأزمة تشكل مفتاحا رئيسا لفهم طبيعة ومآلات الإجراءات المزمع اتخاذها.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هذا النمط التعليمي ليس وليد لحظة الأزمة الصحية القائمة، بل كان، ولفترة طويلة، مطلبا ملحا لدى مختلف الفاعلين في القطاع، لاسيما بعد أن تضمنته الرؤية الإستراتيجية للتربية والتعليم 2015-2030 التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، حيث شددت على ضرورة “تنمية وتطوير التعلم عن بعد باعتباره مكملا للتعلم الحضوري، وعاملا في تنمية ثقافة العمل الجماعي والتشاركي”.
كما اقترن مفهوم التعليم الجيد، في كل من الميثاق الوطني للتربية والتكوين وكذا في الرؤية الاستراتيجية للإصلاح، برفع تحدي الفجوة الرقمية، وذلك من خلال التنصيص على مقتضيات تهم الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في سيرورة التعليم والتعلم.
غير أن التصورات التي تضمنتها التشريعات في المجال التربوي لم تتطرق إلى الاحتمالات الصعبة التي أفرزها واقع الأزمة الصحية، فنجمت عن ذلك حالة من الارتباك الطبيعي الذي لم تسلم منه المنظومات التربوية في العالم أجمع. وهو ما يطرح سؤال التجويد في أفق تلافي الصدمات المحتملة مستقبلا.
وفي هذا الإطار، يرى الأستاذ بالمدرسة العليا للأساتدة بمراكش، لحسن تفروت، أن المدرسة المغربية تراهن على تعميم تعليم و”تعليم عن بعد” جيدين، مؤكدا أن هذه الجودة لن تتحقق إلا في مدرسة جديدة مفعمة بالحياة، من خلال نهج تربوي نشط، يتجاوز التلقي السلبي والعمل الفردي إلى اعتماد التعلم الذاتي، والقدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعي.
وأوضح السيد تفروت، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن جودة التعليم عن بعد لن تتحقق إلا بإعادة النظر في المقاربة البيداغوجية وفي الطرق المتبعة في المدرسة، وذلك بغية الانتقال من منطق تربوي سلبي يرتكز على المدرس وأدائه ويكون مقتصرا على تلقين المعارف للمتعلمين، إلى منطق آخر إيجابي يقوم على تفاعل هؤلاء المتعلمين، وتنمية قدراتهم الذاتية، وإتاحة الفرص أمامهم في الإبداع والابتكار.
وعلاقة بالشروط البيداغوجية الكفيلة بتجويد التعليم عن بعد، خاصة في علاقته بالمقاربات البيداغوجية، من قبيل الكفايات، والتفكير الناقد، والقيم، في المدرسة المغربية، أبرز لحسن تفروت أن الرقمنة تعد مدخلا إلى تجويد التعليم عن بعد بالمغرب، مشيرا في هذا الصدد، إلى أن المغرب اعتمد على عدد من الآليات لإدماج تكنولوجيا الإعلام والاتصال في مختلف مستويات منظومة التربية والتكوين.
وأشار إلى أن الوثائق التربوية والتشريعية المؤطرة لمنظومة التعليم في المغرب غنية بالبنود التي تتحدث عن إدماج الأجهزة التكنولوجية الحديثة ضمن الوسائل التعليمية، وجعلها وسيطة في التعليم، مستحضرا، في هذا السياق، توسيع البرنامج الاستعجالي لوعاء التوزيع الخاص بالحواسيب في برنامج “جيني” (GENIE) وغيره.
من جهة أخرى، وفي معرض تناوله للإمكانيات التي من شأنها تجويد التعليم عن بعد، شدد الأستاذ الزائر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض بمراكش، على أنه لا ينبغي للتعليم عن بعد أن يغفل، في أي من مراحله، العلاقات الإنسانية في الأبعاد التي تتعلق بشخصية المدرس والمتعلم، خاصة على المستوى الاجتماعي والنفسي، حيث يتعين استحضار المتعلم الانسان خلال سيرورة هذا التعليم.
كما أكد على ضرورة توفير العدة الكافية للتنفيذ الجيد للتعليم عن بعد، إذ تبين من خلال اعتماد هذا النمط التعليمي، في إطار الاستمرارية البيداغوجية، أن الكثير من المتعلمين، في المستويات كلها، لم يتمكنوا من الاستفادة بالصورة المطلوبة من هذه الخدمة رغم جهود الوزارة في تيسير الولوج إلى هذا التعليم، سواء عبر القنوات التلفزيونية أو الألواح الرقمية أو وسائل التواصل الاجتماعي.
وأوضح أن مجموعة من المتعلمين لا يملكون الوسائل الرقمية أو يتعذر عليهم الولوج إلى المواقع الإلكترونية، خاصة في المناطق القروية البعيدة أو في المناطق التي تعاني من الهشاشة، مشددا على أن الإنصاف وتكافؤ الفرص يقتضيان الاستمرار في أوراش تحسين الموارد الرقمية وتعميمها، لأن الميدان الرقمي مدخل ضروري لتجويد التعليم عن بعد.
وعلاوة على ذلك، حث السيد تفروت على ضرورة الاستثمار في تكوين العنصر البشري، سواء من خلال التكوين الأساسي للمدرسين في مراكز التكوين، أو عبر التكوين المستمر، لافتا إلى أن التكوين والتأهيل ينبغي أن يشمل معارف في التقني ات الجديدة للإعلام والتواصل والرقميات، وكل ما يفيد في الموارد التكنولوجية لتطوير التعليم عن بعد وتجويده.
ودعا إلى تجنب حصر عملية التعليم عن بعد في المعرفة فقط، إذ ثمة كفايات تلزم كل نمط تعليمي، تتمثل في القيم، والتوجهات النفسية، والتواصل، وطرق التفكير السليم بما فيه الحس الناقد، والتفكير الإبداعي، ونهج التقصي، وعدم السقوط في التعليم المتحذلق، أي ملء الرؤوس بالأفكار والمعلومات دون القدرة على استخدامها.
ويراهن الأستاذ الجامعي على أهمية تبني مقاربات جديدة في التقويم عن بعد تتناسب مع التقويمات على الصعيد الدولي مثل “تيمز” و”بيزا”، التي تعتمد معايير دولية مشتركة للجودة عالميا، وهو ما من شأنه أن يعين على تجاوز اعتبار التعليم عن بعد مجرد وسيلة لإعداد الطالب للاختبار، ويصير وسيلة لتجاوز التعثرات والأغلاط التعليمية، ووسيلة للدعم والمعالجة. وفي ظل المشهد الناجم عن الأزمة الصحية، برز على السطح مفهوم “التعليم المدمج” أو “التعليم الهجين” كبديل ثالث يتوسط التعليم الكلي عن بعد، ونظام التفويج، الذي يظل محط تساؤلات الفاعلين والأسر، نظرا لمرور المتعلمين من مرحلة فراغ قد تمتد إلى الأسبوع تفضي إلى ضياع المكتسبات المعرفية.
ويقوم هذا الخيار الثالث على دمج التعليم عن بعد مع التعليم الحضوري التقليدي عن طريق توظيف منصات التعلم الإلكترونية إلى جانب الحضور الفعلي داخل الفصل، وهو الأمر الذي سيقلص من الفجوة الزمنية التي يخلفها نظام التفويج.
وفي انتظار أفول هذه الصفحة المظلمة من التاريخ الحديث للبشرية والمتمثلة في الأزمة الصحية، يتعين التحلي بقيم التضامن والتكافل التي أبانت عنها كل فئات المجتمع إبان الموجة الأولى للجائحة، وذلك من خلال خلق قنوات موازية على مستوى المجتمع المدني قصد التخفيف من العبء الملقى على عاتق المؤسسات التعليمية.
المصدر: الدار– وم ع