بقلم : يونس التايب
في زمن الشعبوية والعبث التواصلي، وشيوع السياسوية وفوضى الآراء، كثر الحديث عن كل شيء، وصار البعض يتنافسون حول من سيزايد أكثر، في كل اتجاه، باسم الديمقراطية وباسم الحقوق، لدرجة أننا أصبحنا نجد صعوبة في فهم بعض المواقف أو تصنيف عدد من الممارسات التي تصدر عن “سياسيين” و يسميها أصحابها “سياسة”.
أمام هذا الوضع المرتبك، كدت أعتقد أنني ربما نسيت تعاريف السياسة ومدارسها، وربما، لذلك السبب اختلط علي الأمر لفهم ما يجري على الأرض. فقررت أن أعود للبحث في المراجع، لأتأكد هل لا زال المعنى هو نفسه، أو أنه تغير وأنا في غفلة من أمري.
فتحت محرك البحث “جوجل” وكتبت كلمة “السياسة”، وتقريبا في أول صفحة عثرت على نسخة من درس قدمه، في الموسم الجامعي 2014 – 2015، الدكتور محمد فقيهي، لطلبته بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، بعنوان “دروس في علم السياسة”. ولأنني أعرف قيمة الدكتور، و لأن الوثيقة صادرة عن كليتي التي نلت منها شهادة الإجازة في الاقتصاد سنة 1992، قررت الاكتفاء بها ومطالعتها لأقف على تعاريف لمصطلح “السياسة”. و جدتها كالآتي :
(يحتمل مصطلح “السياسة” معان وتعريفات متعددة. فأصله من فعل ساس. وساس الأمر هو بمعنى قام به وتدبره بما ينتج عنه صالح هذا الأمر. فسياسة أمر وتدبره يعني جعل هذا الأمر متجددا ومتغيرا وليس راكدا. فالسياسة لا تستوي إلا في مجتمعات أو تجمعات قادرة على أن تتجدد وتنمو.
والمصطلح له، أيضا، معان متعددة باللغات الأجنبية. ففي اللغة الفرنسية، مصطلح “السياسة” مشتق عن عبارة Polis، بمعنى الحاضرة أو المدينة في الحضارة الإغريقية القديمة، أو politeia ، أي نظام العلاقات الذي تنبني عليه الحاضرة أو المدينة، وطريقة الحكم فيها.
وتحتمل عبارة politique استعمالا بالمذكر، وأيضا بالمؤنث. بالمذكر تعني كلمة “سياسي” رجل السياسة، الذي يمتهن المجال السياسي. إلا أن هذا المعنى لا يتعارض مع المعنى المؤنث. وتعني، أيضا، الصورة التي يكونها المجتمع عن نفسه، بمعنى مجموعة و مكان مجموعة العلاقات الاجتماعية على مستوى الحاضرة أو المجموعة البشرية. وبعبارة أدق، مجموعة البنيات الناجمة عن علاقات السلطة والطاعة التي وضعت من أجل ماهية مشتركة: أي على أقل تقدير الحفاظ على تماسك المجموعة.
واستعمال مصطلح “السياسة” مؤنثا، يعني في المقام الأول مجموعة الآليات التي يوظفها المشرفون على ممارسة السلطة، وكذا الفاعلون الاجتماعيون، من أجل أخذ قرارات معينة أو من أجل التأثير على مسارات اتخاذ القرار أو التموقع في مراكز المسؤولية، بمعنى الترجمة الديناميكية لمجمل الظواهر المترتبة عن تملك السلطة وممارستها في المجتمع.
وقد تحتمل عبارة سياسة معنى محايدا، وتعني تدبير شأن أو قطاع معين بمعنى مجموعة وسائل تقنية وقانونية ومالية، من أجل تدبير هذا القطاع أو معالجة إشكالية معينة.
ويعني مصطلح “سياسة”، أيضا، “استراتيجية” أي مجموعة وسائل وتصرفات ممنهجة من أجل الوصول إلى هدف معين.
وفي منظور ضيق جدا، يكاد يلامس التحقير، عمم جون بول سارتر عبارته الشهيرة “آكل، أشرب، و لا أمارس السياسة”. وفي معنى شديد الخصوصية، يعني مصطلح سياسة “نفاق” أو “ماكيافيلية”).
أكيد أننا عندما نقرأ هذه التعريفات، نفهم جيدا أن عددا كبيرا مما نراه يجري في واقعنا من ممارسات حزبية، و من مزايدات يقع فيها بعض “السياسيين” لخلق “البوز / Buzz”، و من تجاوز البعض للقانون باسم “تسجيل المواقف” أو دفاعا عن قضايا معينة، هي سلوكات لا تحترم أخلاقيات العمل السياسي و لا تندرج فيه، و لا تساعد في تنمية الديمقراطية في بلادنا أو تعزيز ديناميكية سمو القانون.
بل هي ممارسات لا ترقى حتى لتعتبر من باب الانتهازية السياسية opportunisme politique بمعناه الإيجابي الذي يعني تصيد الفرص ضمن إطار قواعد اللعب، ولا ترقى لتعتبر من “الماكيافيلية” السياسية، بسبب ما يميز تلك الممارسات الكثيرة في واقعنا، من رداءة في المضمون و ركاكة في الإخراج، و بسبب ما يطبع سلوك أصحابها من غباء و تنطع وغرور وتعنت، بينما السياسي “الماكيافيلي” هو شخص ذكي بالأساس، وله قدرات على التشخيص الجيد لنقط القوة والضعف، و بلورة استراتيجيات للتحرك من خلالها بغية تحقيق أهدافه والتغلب على خصومه.
ما العمل، إذن، يا ترى و الإحساس يكبر لدينا بأننا عدنا لنسير في الطريق الخطأ، و ربما نخرج من الطريق كليا، في أول منعرج، فنرتطم بجبل صخري يكسرنا، أو نهوي في منحدر سحيق لا نقوم منه ؟
أليس حريا بنا أن نعيد ترسيخ القناعة لدى الجميع، بأن من يريد حقيقة مجتمعا ديمقراطيا ودولة مؤسسات، يجب أن يؤمن بثلاثة أمور أساسية :
– أولا، القوانين طالما وضعت و تمت المصادقة عليها، فيتعين احترامها لا خرقها.
– ثانيا، من حقنا أن لا تعجبنا قوانين معينة، ومن حقنا أن نسعى إلى تغييرها إذا تبين لنا أنها متجاوزة، لكن بالتأكيد ذلك يجب أن يمر عبر القنوات المؤسساتية للتشريع حيث إصدار قوانين جديدة يكون ممكنا، وليس التحرك في الحياة العامة، بمبادرات فردية فلكلورية أو بفرض شرع اليد، و تحدي المؤسسات والسلطات العمومية، كما لو أن القوانين غير موجودة أو المؤسسات لا شرعية لها.
-ثالثا، قد لا تعجبنا سياسة الحكومة، و من حقنا أن نسعى لتغييرها. لكن ذلك يتعين أن يتم من خلال القنوات الديمقراطية، إما عبر إسقاط أغلبيتها الحزبية في المؤسسات، أو انتخابيا من خلال التصويت عقابيا ضدها، وليس عبر الانتقاد في الفيسبوك ثم في يوم الانتخابات نغيب ولا نشارك في اختيار بدائل حزبية سياسية تقترب مما نريده من طموحات، أو نترشح لنكسب أصوات الناخبين و نصبح نحن المشرعون للقوانين و نحن المسيرون للحكومة.
إن احترام القانون يبقى هو صلب العملية الديمقراطية، والعنصر الأساسي الضامن لنجاحها. ومن يدعي حرصه على الديمقراطية واحترام الحقوق، سواء من بين المؤسسات أو من بين الأفراد، لا يجب عليه أن يتجاوز القانون، حتى و لو كان ذلك من أجل قضية يحسبها أصحابها مشروعة، أو دفاعا عن موقف يعتبره أصحابه موضوعيا، أو قضية معينة تحتمل الصواب وتستحق وقفة للمراجعة.
رأيي أن احترام المؤسسات والدفاع عن سمو القانون يجب أن يأتي أولا، ثم بعد ذلك يمكننا أن نتحدث في أي شيء، و عن كل شيء.