الضواحي التي غزتها الإسلاموية في فرنسا (1/2)
بقلم: منتصر حمادة
معلوم أنه في 2 أكتوبر 2020، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خطاباً كان مخصصاً للتوقف عند المعضلة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية حصراً، متحدثاً تحديداً عما اصطلح عليه بـ”الانفصالية الإسلامية”، أو قل الانفصالية الإسلامية الحركية؛ لأنه يقصد بذلك ظاهرة التشدد الديني أو الغلو الديني الذي بزغ هناك خلال العقود الأخيرة، ولم يكن يقصد واقع المسلمين هناك، الذين يناهز عددهم نحو سبعة ملايين مسلم، بل يقترب هذا العدد من نسبة 10% من الساكنة الفرنسية، بمعنى أنه حتى من منظور سياسي انتخابي براغماتي لا يمكن أن تكون الجالية المسلمة أو الأقلية المسلمة في فرنسا، هي المعنية بمضامين هذا الخطاب، إنما المعنيّ الأول والأخير، المشروع الإسلامي الحركي الانفصالي.
مباشرة بعد هذا الخطاب، انخرط العديد من الأقلام الفرنسية والعربية والإسلامية في التفاعل معه، سواء من باب التأييد أو من باب النقد، بصرف النظر عن مرجعية التفاعل، لأن الأمر همَّ مجموعة من المرجعيات والأيديولوجيات، بما في ذلك الأيديولوجيات الدينية والمادية، وبصرف النظر أيضاً عن طبيعة التفاعلات، التي في الأغلب تتوزع على اتجاهين اثنين: اتجاه تفاعلي أيديولوجي صرف، يُسهِم في التشويش على الموضوع، وإثارة القلاقل التي نحن في غِنًى عنها؛ واتجاه تفاعلي معرفي، ميزته الأهم أنه ينتصر للمقاربة الرصينة والنافعة، بما في ذلك الاتجاه الذي يبحث عن المشترك الإنساني، ومن ثَمّ يأخذ مسافة من خطاب الصدام والاختزال، السائد لدينا ولديهم على حد سواء.
وعِوَضاً عن أن تنخرط أقلام الساحة العربية والإسلامية، في تقييم وتقويم ما جاء في الخطاب، من باب الإنصاف، وبمقتضى غلبة القراءات الأيديولوجية في الساحة؛ هيمن خطاب إثارة العواطف، ودخلت الأصوات الإسلامية المتشددة، وفي غضون الشهر نفسه، تطورت التفاعلات من العالم الرقمي والمنابر الإعلامية، إلى العالم المادي على أرض الواقع، عندما تورَّط شاب مسلم من أصل شيشاني، في مقتل مدرس تاريخ، بسبب مبادرة لهذا الأخير، ذات صلة بعرض بعض الرسوم الكاريكاتيرية للمصطفى عليه الصلاة والسلام، على التلاميذ، حيث طلب من التلاميذ المسلمين الانسحاب سلفاً من القسم، حتى لا يتسبب في إثارة حساسيات دينية.
وهو الحدث الذي تلاه تفاعل صانعي القرار مرة أخرى، ووصل إلى التأكيد أن مقتضى “حرية التعبير” لديهم، يُخول لهم إعادة نشر تلك الرسوم في بعض المنابر الإعلامية، موازاة مع عرضها في بعض الساحات العمومية، بكل التداعيات الإقليمية التي ستتلو هذه التطورات، ومنها دعوة بعض الفعاليات في المنطقة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، وفي مقدمتها الفعاليات المحسوبة على الحركات الإسلامية، التي كانت المعنيّة الأولى بخطاب إيمانويل ماكرون.
كشفت هذه الأحداث عن قدر كبير من الجهل المتبادل بين أغلبية المتفاعلين، ومنه جهل أبناء المنطقة بواقع العلمانية في نسختها الفرنسية، وجهل مضاعف بأنماط العلمانية في الساحة الغربية؛ لأن العلمانية علمانيات، كما كشفَت عن جهل أقلام الساحة العربية بواقع المعضلة الإسلامية الحركية التي بزغت هناك، موازاة مع معضلة تهمُّ الفرنسيين، وبعض الأوربيين، وهي معضلة الإسلاموفوبيا، فأصبحنا أمام صراع بين تشدُّدينِ، هما مجرد أقلية، ولكنهما يثيران القلاقل للجميع.
في هذا السياق يأتي صدور هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “الضواحي التي غزتها الإسلاموية” لبرنارد روجييه وجاء في 412 صفحة، ط 1، 2020، محاولاً الإجابة عن مجموعة أسئلة، منها، على سبيل المثال لا الحصر: “كيف انتشر المشروع الإسلامي الحركي في ضواحي المدن الفرنسية، في دولة تتميز بأن نموذجها العلماني مختلف عن باقي النماذج العلمانية في القارة الأوربية؟ وكيف استطاعت مشاريع عربية أن تروج تصورها للإسلام في عقر الديار الفرنسية؟ ما تقاطعات المشاريع الإسلامية الحركية في فرنسا؟
والعمل في الواقع، عبارة عن تجميع دراسات ميدانية ونظرية، استمرت طيلة مدة تُرَاوِحُ بين ثلاث سنوات وأربع سنوات، أشرف عليها مؤلف الكتاب، الباحث الفرنسي برنارد روجييه، وهو بروفيسور في جامعة باريس 8، السوربون الجديدة، ولأهمية مضامين العمل، سُلِّطَ الضوء الرسمي والإعلامي عليه في الأشهر الأخيرة، إلى درجة استدعاء الباحث لكي يدلي بشهادته والرد على أسئلة أعضاء مجلس المستشارين الفرنسي. ومن مؤلفاته السابقة، نذكر: “الجهادي اليومي” 2004، وترجم إلى الإنجليزية، حيث صدر عن جامعة هارفارد في 2007؛ و”تشرذم الأمة” 2011، وترجم إلى الإنجليزية، حيث صدر عن جامعة برنستون في عام 2015. من مميزات العمل، أنه يتوقف بالشهادات والوقائع عند بعض معالم الأسلمة التي أصابت العديد من الضواحي الفرنسية، وبدرجة أقل الضواحي الأوربية، ومنها ضاحية بلدية مولنبك، التي بزغ اسمها في 22 مارس 2016 على هامش اعتداءات مترو الأنفاق في العاصمة البلجيكية.
يشتغل العمل الجماعي على كشف بعض مفاصل العمل الإسلامي الحركي في الساحة الفرنسية، وأداء هذا المشروع في المراكز الدينية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني، التي تفضي مع مرور الوقت إلى تأسيس عزلة مجالية لمسلمي هذه الفضاءات عن المجتمع الفرنسي، ولا يتعلق الأمر هنا بالمراكز الثقافية والدينية وحسب، بل يهم منظمات المجتمع المدني، والنوادي الرياضية والسجون، وباقي التجمعات التي تتميز بحضور نسبة نوعية للمسلمين هناك، مع أن هذه تحولات لم تكن قائمة من قبل، أثناء قدوم الأجيال الأولى لمسلمي فرنسا، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق إعادة إعمار القارة ومعها فرنسا، مع تذكير المؤلف الضروري هنا بأن هذا الجيل الأول لمسلمي فرنسا، جاء بالتحديد بين عامي 1970 و1980، بينما سوف تبزغ المشاكل المرتبطة بالتدين الإسلامي، لاحقًا بعد قدوم المشروع الإخواني، كما جسدت ذلك واقعة الحجاب الشهيرة في عام 1989؛ بسبب العمل الميداني الذي كان وما زال تقوم به مؤسسة “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” التي تُعَدُّ بمنزلة الفرع الفرنسي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
من مفاتيح العمل النظرية، التي تتلوها تطبيقات عملية على أرض الواقع، مفتاح عنوانه تعامل الإسلاميين في فرنسا مع العلمانية، حيث أشار المؤلف إلى أن العلمانية في نسختها الفرنسية بالتحديد، لا تمنع المسلمين من ممارستهم شعائرهم الدينية، بدليل وجود مساجد لإقامة الصلاة، ومكتبات تبيع الكتب الإسلامية، وغيرها من المؤشرات الميدانية، ولكن ما تعارضه هذه المنظومة، هو التأسيس لخطاب طائفي، تروجه مجموعات بشرية ما، تدعي أن قيم الطائفية أسمى من الدولة والمعتقد، ومن هنا عداء الإسلاميين لقيم الجمهورية، بل يتحدث المؤلف عن رغبتهم في القضاء على الجمهورية؛ لأنهم ضد “الإسلام الليبرالي” المفتوح على النموذج الفرنسي.
وتوقف المؤلف عند مجموعة من الرموز الفرنسية التي تنحدر من الجالية المسلمة، سواء كانت تحمل الجنسية الفرنسية أم لا، منوّهًا بانخراطها في النسيج المجتمعي الفرنسي، انطلاقًا من مرجعيتها الثقافية والدينية، عادًّا أن هذه النماذج تجسد هاجسًا حقيقيًّا لمشروع الحركات الإسلامية في فرنسا، وبيان ذلك أن هذه النماذج لا تشتغل بعقلية الأسلمة، وإنما تترك الاعتقاد الديني في المجال الخاص أو في الدائرة العائلية حتى المجتمعية مع الفرنسيين غير المسلمين (من المسيحيين واليهود مثلاً)، من دون فرض وصاية إسلامية ما.
في معرض البحث عن أسباب غزو التديّن الإسلامي الحركي لدى الجاليات المسلمة في الضواحي الفرنسية، يُسلط الكتاب الضوء على أسباب عدة، ويصمت عن أخرى. فمن الأسباب التي يصمت عن الخوض فيها، مسؤولية السياسات العمومية للحكومات الفرنسية خلال العقود الأخيرة، وبخاصة السياسات العمومية التي تهمّ الضواحي، ومن الأسباب الخاصة بالتديّن الإسلامي، توقف الكتاب عند مسؤولية العديد من الدعاة والوعاظ الإسلاميين، الذين أرسلتهم الدول المغاربية، وليس مصادفة أن هذه الجزئية، ستكون أرضية التوجه الذي من المفترض أن تتبناه الدولة الفرنسية خلال السنوات القادمة، وعنوانه إيقاف نظام إعارة الأئمة من المنطقة العربية، أي الخيار الذي كانت تتبعه باريس طوال السنوات الماضية، وذلك في إطار خطة لمواجهة “الإسلاموية” وتعزيز قيم العلمانية بالجمهورية، حيث من المفترض، كما أشارت إلى ذلك أسبوعية “لوبوان” الفرنسية، حسب مضامين وثيقة «إستراتيجية لمحاربة الإسلاموية وضد الهجمات على مبادئ الجمهورية»، إنهاء “نظام الأئمة المعارين” من المغرب وتركيا والجزائر، مقابل تدريب الأئمة الفرنسيين من خلال تطوير “دورات في علم الإسلام” في الجامعات، ومشاريع المدارس الدينية، وخصوصاً في المؤسسات العسكرية والمستشفيات.
بل كان برنارد روجييه صريحًا في التأكيد أن خلاصات هذا العمل الجماعي، تفيد أنه طيلة ثلاثة عقود مضت، تأسست في فرنسا شبكات إسلاموية معقدة، تروم الهيمنة على تديّن مسلمي فرنسا، منوهًا بكون أغلب الأئمة في فرنسا لا علاقة لهم بالحركات الإسلامية، ولكن مؤكد أيضًا، يضيف روجييه، أن نسبة لا بأس بها من أئمة فرنسا، تنتمي إلى الأيديولوجية الإسلاموية، وخصّ بالذكر أربعة توجهات إسلاموية، يتقدمها المشروع الإخواني، ثم التيار الديني المحافظ، باسم السلفية، وبعده في مقام ثالث جماعات «الدعوة والتبليغ»، وأخيرًا، المشروع «الجهادي»، وإن كان أقلية في التصنيف الذي خلصت إليه أعمال الكتاب، عادًّا هذه المجموعات أو التيارات الأربعة، منخرطة في منافسة ميدانية من أجل الظفر بتمثيل الإسلام في الضواحي والأحياء والسجون والمؤسسات، مع اتفاقها الجماعي على معارضة النموذج الجمهوري والعلماني في الحكم للدولة الفرنسية.