إسلاميات… خريطة الإسلاموية في فرنسا: الثقل التركي (5/5)
بقلم: منتصر حمادة
توقفنا خلال الحلقات الأربع الماضية عند بعض عناصر المَجَرّة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، انطلاقاً من معاينات على أرض الواقع، ومتابعات بحثية وإعلامية، وتأسيساً على مضامين تقرير لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي، والمؤرخ في 7 يوليو 2020، تحت إشراف هشام القروي، الذي عينه الرئيس الفرنسي منذ سنين، للإشراف على ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”إعادة هيكلة الحقل الإسلامي في فرنسا”.
ويتعلق الأمر بجماعة “الدعوة والتبليغ” والتيار السلفي [الوهابي] والمشروع الإخواني، ثم الظاهرة الجهادية، ونتوقف اليوم عند الشق الإسلامي المرتبط بالمشروع التركي في فرنسا، رغم أنه بخلاف ألمانيا، حيث توجد نسبة كبيرة للجالية التركية، فإن الأمر مغاير في الحالة الفرنسية، حيث تبقى الجالية التركية متواضعة، لأن النسبة الأكبر تعود للجاليات المغاربية خاصة الجالية المغربية والجزائرية والتونسية، إضافة إلى الجاليات القادمة من شمال إفريقيا ودول جنوب الصحراء، وبالرغم من ذلك، نعاين تغلغلاً للمشروع التركي، عبر مجموعة من المؤسسات والجمعيات، دون الحديث عن إشراف تركيا، على غرار الجزائر وبدرجة أقل المغرب، على إرسال أئمة إلى فرنسا بشكل قار، وتحت تأطير ودعم وتوجيه صناع القرار في تركيا.
يُجسد المشروع التركي الإسلامي في فرنسا حسب التقرير سالف الذكر، في جمعية “ميللي غوروش” [ترجمتها حرفياً: “رؤية المجتمع الديني”]، وتأسست في عام 1969، مقرها كولونيا، بألمانيا، حيث كان مؤسسها هو رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان. ثم تطورت تحت زخم أعضاء الشتات التركي أولاً في ألمانيا، ثم في فرنسا، وخاصة في ستراسبورغ.
وبحسب الشهادات التي جمعتها لجنة التحقيق، ليس للإسلام التركي، في الوقت الحالي، تأثير مماثل للحركات الإسلامية الأخرى في فرنسا. ومع ذلك، فإن هدف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو السيطرة، في مرحلة أولى، على الشتات، من خلال “وزارة الشؤون الدينية”، ثم على السكان من أصل عربي في أوروبا من خلال استغلال خليط القومية والإسلام، بما يُفسر صدور مجموعة من الملفات في العديد من المجلات الفرنسية خلال السنين حول المشروع التركي في فرنسا، مع تسليط الضوء على شخصية رجب طيب أوردوغان، دون الحديث عن مجموعة برامج في القنوات الفرنسية التي توقفت عند الموضوع، قد يكون أحدثها تزامناً مع تحرير هذا المقال، حلقة من برنامج “أمسية خاصة” بعنوان “أوردوغان: السلطان الذي يتحدث أوربا”.
ومعلوم أن رئاسة الشؤون الدينية التركية أُنشئت في عام 1924، ولديها ميزانية كبيرة، وتوظف حوالي 85000 مسؤول ديني، ويكفي التذكير بأنها تنظم سنوياً مناسك الحج لعشرات الآلاف من الأتراك. تدعم المؤسسة مؤسسة ثقافية قوية، يسمى “وقف الديانة التركي”، يسهر على نشر الأبحاث والأعمال اللاهوتية أو التاريخية الشعبية. كما تنشر النسخة التركية من الإسلام. وتتعامل المؤسسة أيضاً مع تنظيم العبادة الإسلامية الرسمية في المهاجر التركية في أوروبا منذ عدة سنوات، وتقوم بأنشطة تعاون في الجمهوريات الناطقة بالتركية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
أشهر قليلة بعد صدور التقرير، سوف تنشر صحيفة “لوجورنال دي دومنش” تحقيقاً كشفت فيه عن وصول العشرات من التقارير الأمنية إلى قصر الإليزيه من قبل المديرية العامة للأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن الخارجي ومديرية المخابرات التابعة لولاية الشرطة في نهاية أكتوبر 2020 تكشف عن نطاق وأشكال وأهداف استراتيجية اختراق تم إطلاقها من أنقرة عبر شبكات تديرها السفارة التركية و”عوامل التأثير” التي أشار إليها الخبراء الأمنيون الفرنسيون تعمل بشكل أساسي ليس مع المهاجرين الأتراك، ولكن تعمل أيضاً عبر بوابة المنظمات الإسلامية وحتى داخل الحياة السياسية المحلية، من خلال الدعم المقدم للمسؤولين المنتخبين، وهو المعطى نفسه الذي نعاينه في اشتغال المشروع الإخواني في فرنسا.
مما جاء في التقرير أيضاً، أنه في مضامين جلسة مغلقة، أكد مسؤول حكومي كبير بأن الدولة التركية تطبق استراتيجية نفوذ تهدف إلى تعزيز سيطرة الأتراك على جزء من التراب الفرنسي، وخاصة في منطقة الألزاس و ستراسبورغ [شمال شرق فرنسا، قرب الحدود الألمانية]، وذلك من خلال بناء المسجد الكبير، وإقامة الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية في فرنسا، والمجموعة المدرسية يونس عمري، ومشروع افتتاح كلية للشريعة الإسلامية تابعة لجامعة مرمرة.. إلخ، بما يُفيد أننا إزاء الرغبة في السيطرة السياسية، عن طريق الدين، لقوة أجنبية على التراب الفرنسي، والهدف هو إبقاء الشتات التركي في متناول اليد”، وأننا إزاء “مخاوف من مساعي رجب طيب أردوغان للهيمنة على السكان من أصل شمال إفريقي في فرنسا” (ص 40)، ووجب التذكير هنا أن الجمعية تدير حوالي 300 جمعية ومسجداً، ولديها حوالي 19 ألف عضو عامل، كما ترتبط بعلاقات وثيقة مع اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا، ومن باب تحصيل حاصل، مع صناع القرار في أنقرة.
ويترأس الحركة الداعية فاتح ساريكير، فرنسي تركي، ويُعتبر شخصية صاعدة للإسلاموية في فرنسا، حيث انتخب في أوائل عام 2020، أميناً عاماً للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، لمدة ست سنوات، وهي الهيئة الأعلى لتمثيل المسلمين في فرنسا، لذلك فهو، المحور الأساسي، هو الذي يؤثر في قرارات المجلس، ومعلوم أن ساريكير يعارض الدعاية التركية ضد “ميثاق المبادئ الجمهورية” الذي اتفق عليه كل من مجلس الديانة الإسلامية والسلطات الفرنسية، باستثناء اعتراض الجماعات الإسلامية التركية الفرنسية، حيث أصدرت جماعة التي يقودها ساركير بياناً نددت فيه بما اعتبرتها “فقرات وصياغات في النص من شأنها أن تضعف أواصر الثقة بين مسلمي فرنسا والأمة”.
وحسب متابعات الإعلامي التونسي والناشط الحقوقي أحمد نظيف، أحد المتتبعين للظاهرة الإسلاموية في فرنسا، فإن اعتراض “ميللي غوروش” من خشيتها من أن يضيق الميثاق الفرنسي الجديد على نشاطها وخاصة على علاقاتها التبادلية مع النظام الحاكم في أنقرة، حيث يشير الفصل السادس من الميثاق إلى أن “إن الغرض من ميثاق المبادئ هو مكافحة أي شكل من أشكال استعمال الإسلام لأغراض سياسية أو أيديولوجية. ولذلك يتعهد الموقعون برفض المشاركة في أي نهج يروج لما يُعرف باسم “الإسلام السياسي”. نحن نُحارِب بإصرار ضد أي حركة أو أيديولوجية يحول مشروعها ديننا عن هدفه الحقيقي، ويحاول خلق علاقات قوة وكسور في مجتمعنا”.