إسلاميات… الصوفية خارج الإسلاموية الفرنسية
بقلم: منتصر حمادة
توقفنا في حلقات سابقة عند المعالم الكبرى للخريطة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، أو الخريطة الإسلاموية، انطلاقاً من مضامين مجموعة من التقارير الرسمية والبحثية، أفضت إلى الحديث عن الحديث عن خمس تيارات بارزة، وهي جماعة “الدعوة والتبليغ”، التيار السلفي الوهابي، التيار الإخواني، الحالة الجهادية، والمشروع الإسلامي التركي في فرنسا.
والملاحظ في هذا التصنيف أنه أصبح رسمياً تقريباً، خاصة بعد صدوره في تقرير لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي، والمؤرخ في 7 يوليو 2020 (جاء في 244 صفحة)، وعرف مشاركة 20 عضواً في مجلس الشيوخ، وقد أشرف على التقرير هشام القروي، الذي عينه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون منذ سنين من أجل ترتيب المشهد الإسلامي المؤسساتي هناك.
ما يُثير الانتباه أيضاً في هذا التنصيف وهذه الخريطة غياب أي الإحالة على الطرق الصوفية، رغم أن الطرق الصوفية حاضرة في فرنسا، خطاباً وممارسة، بل إن بعض النخب الفرنسية المسلمة، تنهل من تديّن صوفي، من قبيل شكيبة خياري (فاعلة سياسية)، إريك جوفروا (باحث) الشاب عبد المالك (فنان)، وأسماء أخرى، وبعضها بالمناسبة، يزور المغرب للمشاركة في مؤتمرات أو الحضور ضمن أنشطة صوفية. (على هامش الاشتغال على أداء إحدى الطرق الصوفية، هنا بالمغرب، عاينا حضور الشاب عبد المالك ضمن الجمهور، أو ضمن الفقراء، حسب الاصطلاح الصوفي، يحث يُصبح العضو/ الفقير هنا، كباقي الأعضاء، ولا توجد وجاهة أو امتيازات أو شيء من هذا القبيل).
كما أن أحدث الإصدارات البحثية في الساحة الفرنسية، والحديث عن كتاب الباحثة كهينة بهلول، وامرأة إمام أيضاً في مسجد فاطمة بالعاصمة باريس، جاء تحت عنوان “إسلامي حريتي”، وتنتصر فيه المؤلفة للمرجعية الصوفية في معرض الدفاع عن خطاب إسلامي إصلاحي، يأخذ مسافة من الإسلامويات السائدة هناك.
وتنتصر فيه المؤلفة للمرجعية الصوفية في معرض الدفاع عن خطاب إسلامي إصلاحي، يأخذ مسافة من الإسلامويات السائدة هناك.
نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار أن التصوف خطاب ديني، كما أن العمل الصوفي يتضمن الدعوة والتوجيه والإرشاد، مثل ما تقوم به بعض الحركات الإسلامية، مع فارق في المرجعية والأداء والمضامين، إضافة إلى وجود عمل صوفي ميداني على أرض الواقع حتى في منظمات المجتمع المدني، سواء بشكل فردي أو بشكل جماعي، على غرار ما يصدر عن الإسلاميين، وبالرغم من وجود عدة قواسم بين العمل الصوفي والعمل الإسلاموي، إلا أن التقرير الرسمي سالف الذكر، لم يتوقف قط عند العمل الصوفي، بقدر ما سلط الضوء على معالم تلك الخريطة الإسلاموية والقلاقل التي تصدر عن أتباع الحركات الإسلامية، من سلفية وإخوان وجهاديين، على قلة هؤلاء.
واضح أن البحث عن سبب غياب إدراج أهل التصوف ضمن التقرير أعلاه، يُحيل على الفوارق بين العمل الصوفي والعمل الإسلامي الحركي، سواء تعلق الأمر بالفوارق في الخطاب أو الممارسة، ما دامت هذه الممارسة مجرد تطبيق لمعالم ذلك الخطاب.
من الصعب إحصاء هذه الفوارق، أقلها النزعة الإنسانية التي تميز الخطاب الصوفي مقارنة مع غياب هذه النزعة عند الحركات الإسلامية، والتي تتعامل مع موضوع الانتماء للمشروع، كأنه يُحيل على الانتماء إلى النسخة الصحيحة للإسلام، أو بتعبير سعيد حوى الذي يؤمن أنه “ليس أمام المسلمين إلا فكر الأستاذ البنا إذا ما أرادوا الانطلاق الصحيح”، أو أنه “لا زالت دعوة الإخوان المسلمين وحدها هي الجسم الذي على أساسه يمكن أن يتم التجمع الإسلامي في العالم”، أو كما نقرأ له في مقام آخر: “إذا كانت الجماعة [الإخوان] هذا شأنها فلا يجوز لمسلم الخروج عنها، قال عليه السلام “من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”، ضمن أدبيات أخرى.
هذه الإشارة لسعيد حوى، مهمة جداً لقراءة تعامل أعضاء الحركة الإسلامية مع أي عضو أخذ مسافة من التنظيم والانفصال عنه، كأنه خرج تواً من الإسلام، بينما في الواقع خرج من نمط معين من التديّن، ولم يخرج من الدين، حتى لو كان هذا التديّن هو التصوف، مع ظاهرة “ما بعد الطرقية”، أي انفصال أعضاء صوفيين عن طريقة صوفية.
عاينا هذا التعامل العدائي مع العديد من الحالات في الساحة المغربية، فالأحرى في الساحة العربية والإسلامية، من قبيل ما جرى مع فريد الأنصاري في المغرب، عندما اتهم بأنه “سلفي” أو “مخزني” كما لو أنه أصبح عدو الحركة المعنية، أي حركة “التوحيد والإصلاح”.
حتى لو كان هذا التديّن هو التصوف، مع ظاهرة “ما بعد الطرقية”، أي انفصال أعضاء صوفيين عن طريقة صوفية.
ومن النماذج أيضاً، ما جرى مع حالة الباحث محمد لويزي في فرنسا، وكان عضواً في حركة “التوحيد والإصلاح” هنا في المغرب، وبعد الهجرة إلى فرنسا، بقي وفياً للمشروع للإخواني مع تنظيمي هناك، قبل انخراطه في المراجعات وإعلان الانفصال عن المشروع.
ومن نتائج هذا الانفصال، كما نعاين ذلك بالتوثيق في كتابه “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟”، (2016) حيث نعاين في الصفحة 326 من الكتاب، صورتان، تظهر الأولى لويزي رفقة أعضاء من التيار الإخواني، مؤرخة في 2005، في حقبة الانتماء، ومعها صورة ثانية للأعضاء أنفسهم، مؤرخة في 2008، في حقبة انفصل فيها بشكل نهائي عن المشروع، ولكن تمت تغطية وجهه من الصورة عبر تقنية فوطوشوب، كأنه أصبح خارج الإسلام في لاوعي هؤلاء، تحت إسم الخروج عن الإسلاموية، وهذه ممارسة تلخص الشيء الكثير في الجهاز المفاهيمي لبعض هذه الجماعات، وهي إشارة تحيل على الفوارق بين العمل الصوفي والعمل الإسلاموي. [دون أن يُفيد ذلك أن العمل الصوفي لا يعاني من أعطاب، وأكدنا مراراً أنه يمر من قلاقل هو الآخر، بدليل الحديث عن “ما بعد الطرقية”].
دون أن يُفيد ذلك أن العمل الصوفي لا يعاني من أعطاب، وأكدنا مراراً أنه يمر من قلاقل هو الآخر، بدليل الحديث عن “ما بعد الطرقية”
لا يمكن أن يُدرج مجلس المستشارين الفرنسي وغيره من المؤسسات الأوربية والغربية، أهل العمل الصوفي ضمن الخريطة الإسلاموية، لأن الخطاب الصوفي غير معني بأدبيات “الطائفة المنصورة” و”الجاهلية” و”التقية” و”الحاكمية”، أي أدبيات المودودي وسيد قطب وسعيد حوى وأسماء أخرى، حررت أعمالاً في سياقات زمنية معينة، ولكن إسلاموية المنطقة، ومنها إسلاموية فرنسا مصرة على إسقاط مقتضى تلك الأدبيات على مجالات ثقافية مغايرة للمجالات الثقافية والظروف الاجتماعية والحالات النفسية التي حررت فيها تلك الأعمال.
بل إن بعض مميزات الخطاب الصوفي، تقف وراء اعتناق الفرنسيين والأوربيين للإسلام، وانخراط بعضهم في ترجمة أعمال أبي حامد الغزالي وابن عربي وعبد القادر الجيلاني وأسماء أخرى، ما دامت أدبيات هذه الأعلام لا تروج قط الأدبيات الإسلاموية.
لهذه الأسباب، ضمن أخرى، لم يتم إدراج الطرق الصوفية في الخريطة الإسلاموية الصادرة عن تقرير رسمي لمجلس المستشارين الفرنسي.