المستشرقون الألمان.. النشوء والتأثير والمصائر
بقلم ✍️ منتصر حمادة
كتاب هام ذلك الذي ألفه به المفكر اللبناني رضوان السيد تحت عنوان: “المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر”. (صدر عن دار المدار الإسلامي البيروتية).
وبداية، يذهب المؤلف إلى أن الاستشراق الألماني لدى الباحثين العرب والمسلمين ما عانى من مشكلات الاستشراق بعامة فقط؛ بل كانت لغتُهُ أيضاً بسبب أسباب قصور تأثيره وعجزه عن التوصيل إبان فترة ازدهاره. فقد حاول مراجعة مشكلاته، والتوصل إلى الانضواء في أحد أربعة تخصصات: التاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم الدين، والدراسات الشرق أوسطية. وهذا عمل جيل الكهول، الذين بدأوا ينتجون في الثمانينات. وما تزال بالجامعات الألمانية عشرون كرسي تقريبا تُعنى بالدراسات الإسلامية والعربية.
بيد أن تطورين مهمين حدثا ومهدا لرد الاعتبار إلى الاستشراق الجرماني بالذات: يتعلق الأول بازدهار دراسات “الإسلام المعاصر” لفهم واستيعاب ظاهرة الحركات الإسلامية، وازدهار الدراسات الأدبية المعنية بالتراث الأدبي العربي والفارسي والتركي، والمعنية بالأدب الروائي الحديث والمعاصر لدى العرب والإيرانيين والأتراك والشعوب الإسلامية الأخرى.
أما السبب الثاني، فيرتبط بقيام معاهد وكراسي لدراسة “الدين الإسلامي في كليات اللاهوت”، أو في مراكز الدراسات المسيحية والإسلامية. في حين تُصرُّ جامعات قليلة على مسمَّى “الدراسات الإسلامية” أو “علم الإسلام” أو “الدراسات العربية” في كراسيها ومعاهدها.
ويعزو مؤرخو الاستشراق الألماني تأخير ظهوره باعتباره تخصصاً مستقلاً إلى الجيل الثاني، أو جيل مارتن وكارل هاينرش بيكر، والمتأمل في زحام الدراسات ذات الطابع الشامل والمستقل في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، يلاحظ تحول ذلك التخصص إلى حقل واضح المعالم في تلك الفترة بالذات.
ويعزو مؤرخو الاستشراق الألماني تأخير ظهوره باعتباره تخصصاً مستقلاً إلى الجيل الثاني، أو جيل مارتن وكارل هاينرش بيكر.
وإذا كان كريمر وغولدزيهر وهورغرونيه قد قطعوا خطوات وساعة في دراسة الحياة الدينية والثقافية للإسلام حتى أواسط القرن التاسع عشر؛ فإن علوم تاريخ الإسلام وصلت إلى ذروتها على يد كل من تيودور نولدكه (1836-1930) ويوليوس فلهاوزن (1844-1918). فقد مارس كل السابقين من المستشرقين الألمان أعمالا متنوعة في الجامعة وخارجها، أما هذا الرجلان فقد ظلا أكاديميين ومعلِّمَين، ونولدكه فيلولوجي تاريخاني جاف، كان يعرف عدداً كبيراً من اللغات السامية والهندو ــ أوروبية. وبحوثه ذات منحى لغوي في أكثرها، لكنه اشترك مع دي غويه في نشر تاريخ الطبري. وبالنسبة لفلهاوزن، فقد صنع لنفسه اسما بكتابة دراسة مشهورة في نقد نص الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم. ثم كان أول أعماله في مجال الدراسات العربية والإسلامية تلخيصه بالألمانية لمغازي الواقدي.
من بين الدراسات الهامة التي اشتغل عليها المؤلف في عمله هذا، دراسة للسيدة لودميلا هانيش عنوانها: “البحوث الإسلامية وعلم الإسلام في الدولة القيصرية الألمانية: الرسائل المتبادلة بين كارل هاينرس بيكر ومارتن هارتمان (1900-1918)”، والدراسة من حيث لم تقصده المؤلفة، بحث في تحول المستشرقين الألمان إلى مؤسسة تتلقى الدعم لأنها تعمل في خدمة الدولة الألمانية.
وما يُحْسَب لهاينرس بيكر ومارتن هارتمان الإقرار الصريح بأن “الموضوعية” تقتضي عرض قضايا الإسلام كما يفكر فيه أبناؤه، وليس كما يفكر فيه الأوروبيون وحسب، ثم إن “الموضوعية” من جهة أخرى، لا تعني بالضرورة معاداة الإسلام.
على صعيد آخر، إذا كان سلفستر دو ساسي قد أسس مدرسة اللغات الشرقية في باريس عام 1794 لتدريب الشبان الفرنسيين الذين يراد إرسالهم إلى الشرق، فإن الألمان لن يؤسسوا مدرستهم للغات الشرقية في برلين 1887، وجاءت تحت اسم “معهد الشرق”، وكان مارتن هارتمان سالف الذكر، بين أوائل الدرسين فيها. ويهتم المعهد بالشرق المعاصر، ويصدر مجلة، ويعمل فيه عدد من الباحثين مهمتهم إلى جانب مراكز أخرى الاستجابة لطلبات ومشاورات الخارجية الألمانية التي تمول المعهد، ومكتب المستشار الألماني ولجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان.
ومن المفارقات هنا، أن مستشرقين ألمان كبار، من أمثال فرتز شتبات وجوزيف فان ويوهانسن، تطلعوا بشيء من الارتياح إلى إهمال هتلر والنظام النازي لهم، وعدم استعمالهم، مثلما فعلت القيصرية قبل الحرب الأولى. والذي يبدو أن ذلك كان لأمرين اثنين:
ــ فقد أعطت النازية الأولوية لسياسات “المجال الحيوي” أي التوسع في أوربا، و”علماء الإسلاميات هؤلاء لا شأن لهم بذلك”؛
ــ والأمر الثاني أن النازية كانت تحتقر الثقافات والشعوب الأخرى، ولذلك فقد اهتمت أكثر ما اهتمت بأن تخلق عملاء من أهل المنطقة وخارجها للاحتياجات العملية والدعائية؛ والمستشرقون لا ينفعون في ذلك أيضاً.
يبقى أن نعرج على إدوارد سعيد، ناقد المستشرقين الأبرز، لأنه لا يستقيم الحديث عن الاستشراق دون المرور على هذا الاسم بالذات، حيث يرى الكاتب بأن تجنب سعيد ذكر الاستشراق الألماني يعود إلى أن خطته كانت دراسة الكتابات عن الشرق التي ارتبطت دول الكاتبين فيها بمشروع إمبريالي تحديداً، وهذا يعني أنه ما كان يعتبر الاستشراق الألماني منخرطاً في مشروع استعماري، لكن، يضيف رضوان السيد، يظهر من ناحية أخرى أنه ما كان يعرف ضخامة حجم ومجالات الدراسات الشرقية الألمانية، ولا مدى ارتباط بعضها قبل الحرب الأولى بمشروع الدولة الألمانية، وفكرة “المجال الحيوي”.
لا يستقيم الحديث عن الاستشراق دون المرور على هذا الاسم بالذات، حيث يرى الكاتب بأن تجنب سعيد ذكر الاستشراق الألماني يعود إلى أن خطته كانت دراسة الكتابات عن الشرق التي ارتبطت دول الكاتبين فيها بمشروع إمبريالي.
واعتبر رضوان السيد، بحكم متابعة الرصينة لأدبيات الاستشراق الألماني، أننا سنعاين تحول كثير من المستشرقين الألمان الكهول في الثمانينات، بعد كتابات إدوارد سعيد، وماکس تیرنر، عن تسمية أنفسهم كذلك، وصاروا يتحدثون عن الاختصاص بالدراسات الإسلامية. بينما انصرف آخرون لاعتبار أنفسهم مختصين بالأدب العربي، أو بالآثار الإسلامية، أو التاريخ الإسلامي؛ حسب تنوع مجالات اهتمامهم. بيد أن ذلك لم يحل دون تعرض كتاباتهم لهجمات من جانب فريقين غربيين: فريق النقديين الجذريين، وفريق أنثروبولوجيي الإسلام. وقد كان الأولون أشد قسوة وأبلغ تأثيراً. ويعني بتيار النقديين الجذريين أمثال وانسبورو وكوك وكرون وهوتنغ وسمر مان وبورينغ وکریمر. وقد كان ظاهر نقد هؤلاء أنهم يحملون على الفيلولوجيا التاريخانية، التي اعتبروا المستشرقين الألمان فتاة ممثليها.
أما الفريق الآخر، فريق أنثروبولوجيا الإسلام، والذي وجه إلى فكرته الأنثروبولوجي طلال أسد نقداً قوياً، فقد انطلق من ظواهر الإسلام المعاصر، ليوجه هجمة ساحقة إلى سائر الاستشراق: الألماني وغير الألماني. وقد تزعم دراساته هذه رجلان ذوا اتجاهين متباينين: إرنست غلنر صاحب کتاب “مجتمع مسلم”، الذي ظهر – مترجمة إلى العربية من جانب الأستاذ السعودي المعروف أبو بكر باقادر، وقد اعتبر الإسلام ديناً أصولياً ذا نزوع طهوري لقيادة على النص المقدس الذي يصونه ويؤوله العلماء؛ لكنه يعود لأصله في الأزمات؛ وكليفورد غيرتز، الذي رأى أنه ليست هناك “نواة صلبة” للإسلام أو فيه، وأنه کشکول رمزی، حطمته الحداثة؛ وهناك إسلامات متناثرة اليوم في ما بين المغرب وإندونیسیا.
خلُص المؤلف أيضاً إلى أن الاستشراق الألماني، ما عانی لدی العرب والمسلمين من مشكلات الاستشراق بعامة فقط، بل كانت لغته أيضاً بين أسباب قصور تأثيره وعجزه عن التوصيل إبان ازدهاره . فهناك قلة من العرب الأكاديميين استطاعت متابعة إنجازاته بعكس الاستشراقين الفرنسي والبريطاني. وهذا ظاهر في شهرة سائر المستشرقين الإنجليز والفرنسيين لدى العرب، وضآلة شهرة كبار المستشرقين الألمان. وقد كانت الترجمات عن الألمانية ضئيلة في شتى مجالات العلوم الإنسانية؛ وفي الاستشراق بالذات.
كتاب قيم ننصح به، لاعتبارات عدة، منها أنه يشتغل على مدرسة الاستشراق الألماني، الذي يبقى الأكثر إنصافاً للحضارة العربية الإسلامية، ومنها المكان العلمية لمؤلفه، المفكر والمترجم رضوان السيد، المتمكن من مادته العلمية، ومنها علم الاستشراق.