هدايا ماريا روزا مينوكال لأهل المشترك الإنساني في الأندلس
بقلم ✍️ منتصر حمادة
ضيف هذا العرض كتاب “الأندلس العربية: إسلام الحضارة وثقافة التسامح”، لمؤلفته ماريا روزا مينوكال، وهو كتاب يُلقِي نظرة مختلفة على تاريخ الأندلس العربية، وتمتد الفترة الزمنية التي تعالجها المؤلفة من منتصف القرن الثامن الميلادي حتى بداية القرن الثالث عشر الميلادي، وهي الفترة التي تبدأ بفرار عبد الرحمن الداخل من بطش العباسيين بدمشق، مروراً بما بناه الأمويون من مآثر معمارية وثقافية في إطار خلافتهم الأندلسية، ثم ما ولي ذلك من مشاهد الدمار التي لحقت مناطق عديدة من البلاد في أعقاب سقوط الخلافة وما خلفها من تناحرات ملوك الطوائف، ثم دخول الأندلس في دولة المرابطين ودولة الموحدين بعدهم، ثم الحروب الصليبية التي سميت بحروب الاسترداد وأدت إلى سقوط الأندلس. (صدر الكتاب عن دار توبقال، وترجمه عبد المجيد جحفة ومصطفى جبّاري)
وماريا روزا مينوكال بالمناسبة، ذات أصل الكوبي وأستاذة اللغة الإسبانية والبرتغالية في جامعة ييل الأمريكية، وأصبحت معروفة على المستوى الدولي بإعادة قراءتها للتاريخ الثقافي والأدبي في الأندلس.
والكتاب، كما نقرأ في التقديم، ليس كتاب تاريخ فحسب، وليس كتاب تاريخ بالمعنى التقليدي، فهو يحاول رسم المسارات الثقافية للأندلس منذ دخول العرب إليها، عبر تصوير شخصيات فاعلة، أسست لثقافة الحوار والتسامح وبناء المعنى الاجتماعي للثقافة وللإنسان، وعبر تتبع تواريخ بعض المآثر.
تنطلق المؤلفة من افتراض استقرار الأمويين بأوربا يُعد حدثاً حاسماً أسّس أوروبا الحديثة وشكلها، ولذلك تحاول أن تقف على أشكال التأثير التي مارستها الحضارة العربية (الأموية بالخصوص) الغنية والمُرَكَّبة والفريدة من نوعها في الثقافة الأوربية الحديثة، ومن خلالها في حضارة العالم بأسره.
والكتاب إجمالا يُمَثِّل عملا تركيبيا للحضارة الأندلسية. ولكنه مفاجئ أيضاً باختلافه، عندما نقرأ أن الحداثة الأوربية تعود في كثير من مظاهرها وأفكارها إلى ما قدمته الأندلس من نموذج حضاري وإنساني، ثم عندما يصر على أن تعايش الديانات السماوية الثلاثة في ظل الإسلام الأندلسي والأندلس العربية يظل حلماً إنسانياً مفتوحاً على المستقبل. وبهذا نفهم لماذا اختارت المؤلفة عبارة الشاعرة الألمانية هروتسفيتا في وصف الأندلس بـ”توشيح العالم” عنواناً أصلياً لكتابها.
دور الترجمة.. من بغداد إلى الأندلس
برأي المترجمان، يُقدِّم عمل مينوكال درساً قوياً لمن يُحسِن استخلاص الدروس، حول الدور الذي لعبته الترجمة في تمرير الثقافات وسيرورات التملك المعرفي المنشئة لأسس التسامح والحوار. حيث تتبعت الكاتبة المصائر المتشبعة لعينات من الذخائر العربية المنقولة من قبل المعربين من اليهود والمسيحيين اللاتينيين في لغات عالمية ومحلية. حركة غير معزولة عن مخاض تشكل وتطور اللغات في أوروبا الوسيطية، وتدافعها وتجددها المتصل المفضي إلى العصر الحديث، مسرح شاسع خشبته طليطلة، معهد الترجمة العالمي وقبلة المنقبين عن كنوز العربية رمز عقلانية الفكر وحداثته يومئذ، وأطرافه إشبيلية وغرناطة وصقلية ونورماندي وباريس.. فعلى هذا المسرح عبرت لغات وتلاقحت وسكبت تراث اليونان والعرب في أقداح بعضها البعض، في حمية تُغَذِّي وحدة أبناء إبراهيم وتكرس التسامح الحضاري الذي لم تتوقف عن إجهاضه وهدر مكتسباته الترعات الإيديولوجية والدينية المنشطة لدورة سياسية آلت بمستقبل التسامح إلى الاضمحلال ثم إلى الكارثية.
يُقدِّم عمل مينوكال درساً قوياً لمن يُحسِن استخلاص الدروس، حول الدور الذي لعبته الترجمة في تمرير الثقافات وسيرورات التملك المعرفي المنشئة لأسس التسامح والحوار.
تابعت الأندلس، مثل باقي العالم الإسلامي، تطورات عمل الترجمة والتمثل، واقتفت في البداية أثر بغداد. لكن مسار الأحداث سيكشف لدى المفكرين الأندلسيين إرادة عدم السلوك كمجرد مستوطنين وافدين. وعند وفاة ابن حزم الأفلاطوني الحديث، الذائع الصيت، سنة 1064م، كان واضحاً حتى في ظل الفوضى السياسية التي تلت سقوط الخلافة بقرطبة وربما بسبب تلك الفوضى نفسها، أن الأندلس في ظل حكم الطوائف ستستمر في طليعة كل محاولات التجريب الثقافية. وسيتكثف النشاط الفلسفي رغم ما أسفرت عنه الدورة السياسية من أنظمة استبدادية متصاعدة، مسيحية ومسلمة، بعد نهاية القرن الحادي عشر. ومع مرور الزمن، أصبح “التعارض بين الإيمان والعقل” بمثابة المحرك الضمني لمشروع الترجمة، حاجة آنية متزايدة.
تقف المؤلفة عند الإقبال الكبير الذي كان على الثقافة واللغة العربيتين من قبل الجماعات غير العربية، التي أتقنت اللغة العربية وليست اللباس العربي وأقبلت على الفنون العربية من شعر وغناء ومعمار وبستنة. وكان لهذا التأثر نتائج على نهضة الفنون والآداب بأوربا فيما بعد. (وتشير المؤلفة في هذا الصدد أنه في أواسط القرن التاسع، في أحد أشهر وثائق ذلك العصر، نجد بول أفار القرطبي يشكو من عجز الشبان المتحدرين من الجماعات المسيحية عن كتابة رسالة واحدة باللاتينية، في حين أنهم يكتبون ـ أو كان لهم على الأقل طموح كتابة ـ قصائد بعربية فصحى تضاهي تلك التي يكتبها المسلمون).
خلافة ضحية ازدهارها
ترى المؤلفة أن الخلافة بقرطبة كانت، بمعنى مُعَيَّن، ضحية لازدهارها ونجاحها، ولكل ما ترتب عن ذلك، فخلافاً للأفكار الشائعة، لا يمكن اختزال هذا التاريخ في صراع بسيط بين كفار ومؤمنين، فحوالي نهاية السنوات 900م، قام المنصور متحدياً بغارات تهديمية ضد معاقل المسيحية في الشمال، وكان قد “اكتسب” سلطة تفوق سلطة الخليفة الشاب والشريف الذي يفترض أنه كان حاميه، غير أنه، مع منعطف الألفية، لم تكن الغارات والتحديات الموجهة إلى ممالك الشمال، هي التي أحدثت انهيار السلطة المركزية للخلافة. فقد اندلعت حروب أهلية عنيفة سنة 1009م بين عصب مسلمة متنافسة بالأندلس، وخلال العقدين المواليين، مزقت هذه الحروب “جوهرة العالم الساطعة” وقد أطلق شهود مذهلون، بصورة جد مؤثرة، على سنوات هذا التدمير الذاتي اسم “الفتنة”.
ها هي هذه الثقافة، التي كانت قد عرفت أوج قوتها، تنثني وتتراجع، ولم يكن ذلك بسبب هجوم المتوحشين (Les barbares) على أبوابها، ولكن من فرط الضربات الهمجية لشعبها نفسه، داخل حدوده.
ها هي هذه الثقافة، التي كانت قد عرفت أوج قوتها، تنثني وتتراجع، ولم يكن ذلك بسبب هجوم المتوحشين (Les barbares) على أبوابها، ولكن من فرط الضربات الهمجية لشعبها نفسه، داخل حدوده، داخل “دار الإسلام” بدأت العجرفة والانحرافات التي أحدثها الرخاء والازدهار تؤثر في الخلافة حوالي نهاية القرن العاشر. وفي نفس الوقت، خلقت رباطة الجأش التي أبداها عبد الرحمن الثالث بإعلانه الخلافة الأندلسية، خصوما ومنافسين. وقع هذا تحديدا في الوقت الذي بدأت فيه إمارات إسلامية قوية أخرى، معادية لتفرد الأمويين، سواء على المستوى الأيديولوجي أو على المستوى السياسي، تبرز في إفريقيا الشمالية.
شهدت الأندلس منذ بداياتها تأسيس علاقات بين ــ دينية مشهودة وفريدة. فالعشيرة اليهودية انبعثت من رمادها وخرجت من تلك الحياة الفظيعة التي كان قد أغرقها فيها الحكم القوطي. ذلك أن الأمير الذي نصب خليفة في القرن العاشر كان وزيره في الشؤون الخارجية يهودياً. وقد تميزت الهوية الأندلسية خلال هذه القرون الأولى بزيجات بين عشائر من ثقافات متنوعة، وبحوارات ثقافية من مستوى عال مع الذميين. وفي الواقع، كان هذا كله يشكل جزءا لا يتجزأ من الخصوصية الأموية مقارنة بباقي العالم العربي. وفي سنة 929م، تم الإعلان جهراً عما كان يحس به الكثيرون أو يؤمنون به منذ سنة 756م. لقد أعلن في كل مساجد الأندلس أن عبد الرحمن الثالث هو الحامي الحقيقي للعقيدة، والخليفة الشرعي للعالم الإسلامي كله، والمرشد الديني لكل المسلمين.
وبالنتيجة المؤلمة، شكل الدمار العنيف الذي تعرضت له مدينة الزهراء سنة 1009م، مباشرة بعد اندلاع الحرب الأهلية، التاريخ الذي يحدد نهاية السلم السياسي الذي عرفته الولاية الإسلامية في أوروبا الوسيطية. ويكفي استحضار الأوصاف التي أطلقت على المدينة البلاطية الباذخة الواقعة في ضواحي قرطبة، والتي جَسَّدت برأي المؤلفة إحدى روائع الهندسة المعمارية في العالم الإسلامي.
صرخة في وجه العالم الهمجي المعاصر
لم تبلغ حضارة أخرى، في أي مكان آخر، ما بلغته هذه الحضارة من بهاء وجلال خلال القرنين السابقين، وغالباً ما توصف الحضارة الإسلامية بأن إنجازها وتأثيرها لم يكونا بهذه العظمة إلا خلال تلك المئات من السنوات التي أعقبت عزل العباسيين للأمويين واستقرارهم ببغداد، وطنهم الجديد. فهنا أعاد اليهود، وقد تعربوا بصورة عميقة، اكتشاف العبرية وأعادوا ابتكارها وهنا تبنى المسيحيون كل مظاهر الأسلوب العربي تقريباً، والمنهج الفلسفي وحتى الهندسة المعمارية للمساجد ولم يقتصر هذا على زمن السيادة العربية، بل تعداه إلى زمن ما بعد انتزاع السلطة منهم.
وهنا أيضاً لم يتردد رجال ذوو إيمان راسخ، أمثال أبيلار وابن ميمون وابن رشد، وهم يبحثون عن الحقيقة الفلسفية أو العلمية أو الدينية، في تجاوز حواجز المعتقدات، لقد أدرك هذا النموذج المثالي من التسامح ما كان يمنحه التنوع والتعدد، الفردي والثقافي من غنى ومن ثمار.
هنا أيضاً لم يتردد رجال ذوو إيمان راسخ، أمثال أبيلار وابن ميمون وابن رشد، وهم يبحثون عن الحقيقة الفلسفية أو العلمية أو الدينية، في تجاوز حواجز المعتقدات.
نترك مسك الختام لمترجمي هذا العمل القيم، حيث لاحظ عبد المجيد جحفة ومصطفى جبّاري أننا بصدد إرث يجب الوعي به وتغذيته في الحاضر والمستقبل. فالكتاب يحمل تصوراً مغايراً للتاريخ، أو التاريخ بوصفه بحثاً في الظواهر الحية والمأمولة، وليس بوصفه بحثاً في الظواهر الحية والمأمولة. نحن أمام صرخة مدوية في وجه العالم الهمجي المعاصر الذي تلفه الأحادية والأصوليات من كل نوع، وتغلفه الأفكار الإيديولوجية الجاهزة.