إصدار جماعي حول العلاقة بين الدين والسياسة من منظور فلسفي
بقلم ✍️ منتصر حمادة
قلة قليلة من الإصدارات التي يمكن أن يوصف سياق صدورها بأنه جاء في أوانه، وخاصة عندما يأتي تاريخ الإصدار في ظرفية يختلط فيها حابل اللغط الإيديولوجي بنابل الفوضى الميدانية، ونحسبُ أن كتاب “الدين والسياسة من منظور فلسفي” من الأعمال التي ينطبق عليه شعار: “هذا كتاب جاء في أوانه”. (صدر الكتاب تحت إشراف محمد المصباحي، عن مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، (الدار البيضاء)، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية، (الرباط)، منشورات عكاظ المغربية، وجاء في 295 صفحة من الحجم المتوسط).
نقرأ في تمهيد الكتاب أن موضوعه الرئيسي يدور حول العلاقة بين الدين والسياسة، منظوراً إليها من زاوية فلسفية، وبخاصة من زاوية فلسفة الحق السياسي والأخلاقي. وبالرغم من أن الأسئلة الفلسفية والسياسية والدينية الشائكة التي توجه أبحاث الكتاب متباينة ومتشعبة في منطلقاتها ومباحثها وأغراضها، فإن ما يوحدها هو الرغبة في المعرفة والمداولة والحوار، من غير إرادة لتسخير جانب من أجل السياسة والفلسفة أو العكس، ولا رغبة في الإدعاء باحتكار المعرفة اليقينية من قبل هذا أو ذاك، أو افتتان بموت الحقيقة، أو تقاعس عن البحث عنها.
نبدأ بأولى المساهمات، تحت عنوان “خطاب الدين والسياسة: دراسة سيميائية في الأنساق الرمزية”، ولطول المداخلة، نتوقف في هذا العرض العابر عند أهم خلاصاتها، ومنها تذكير الباحث أحمد يوسف، بأن سياسات الدول تقوم إما على أساس المبادئ، وإما على أساس المصالح، وعلى هذا النحو، فإن الدين يحتكم إلى المبادئ كما يحتكم أيضاً إلى تغليب المصالح المرسلة التي تعد قاعدة من قواعد مصادر التشريع الإسلامي، ليخلُص إلى أنه لا تنافر بين الدين والسياسة في الحفاظ على المبادئ، من جهة، وتغليب المصلحة، ومن جهة أخرى ضمن انسجام الرؤية بين “الشرع والسياسة”.
دراسة سيميائية في الأنساق الرمزية”، ولطول المداخلة، نتوقف في هذا العرض العابر عند أهم خلاصاتها، ومنها تذكير الباحث أحمد يوسف، بأن سياسات الدول تقوم إما على أساس المبادئ، وإما على أساس المصالح، وعلى هذا النحو.
بالنسبة للزواوي بغورة، محرر مبحث “الأنطولوجيا التاريخية والموقف من الإسلام”، فقد ارتأى الاشتغال على مواقف وقراءات الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو من أحداث “الثورة الإيرانية” على عهد الخميني، كمقدمة لتقييم موقف فوكو بشكل عام من الدين، حيث خلُصَ مثلاً إلى أن موقف الراحل من الدين عموماً وعلاقته بالسلطة، هو أن مشروعه الفلسفي مبيناً على فهم وتحليل معينين للثقافة الغريبة على وجه التحديد التي يشكل فيها الدين المسيحي أحد عناصر الأساس، مضيفاً أن القارئ لنصوص الفيلسوف يلحظ بيسر حضور الدين المسيحي، واللاهوت المسيحي بوصفه خطاباً ثقافياً يجب دراسته وتحليله تحليلاً تاريخياً يتناسب وطريقته في تأويل الأحداث والممارسات والخطابات وذلك ضمن أطروحاته الخاصة بعلاقة المعرفة والسلطة.
وفي إطار تقييم هذه المواقف، اعتبر بغورة بداية أن الدين بما هو خطاب وممارسة يعتبر عنصراً أساسياً في الثقافة الإنسانية عموماً، وفي الثقافة الغربية على وجه التحديد، ويعتبر سلطة ممثلة بالسلطة الرعوية والدولة العادلة. وهو خطاب خاضع لآليات السلطة والمعرفة، وللرهانات الإستراتيجية والتكتيكية، وللتحولات التاريخية، وتبعاً لذلك فإن العلاقة بين السياسي والديني تخضع للتحول والتغير، قبل أن يخلُص، في حالة دراسة مواقف فوكو من الدين، إلى أن لجوء هذا الأخير لعبارة “سياسة الروحية” تحمل مفارقة ظاهرة، اللهم إن كانت تُعد في نظره بمثابة مطلب أخلاقي وحق سياسي، على السلطة أن تضمنه لمواطنيها سواء كانت سلطة دينية أو علمانية؛ لأنها تأكيد على قيمة الحرية والتحرر؛ ولأنها أساس حقوق الإنسان.
تأسيساً على بعض أدبيات ليو شتراوس، اشتغل محمد المصباحي على ملامح العلاقة الجدلية بين الفلسفة والدين، من خلال متابعة العلاقة المتوترة بين السياسة والفلسفة في لحظة أولى، وعلاقة الساسة بالدين في لحظة ثانية، متطلعاً من وراء ذلك إلى جعل الفلسفة هي المجال المشترك الذي يسمح باللقاء الخصب بين الديني والسياسي.
ومن أهم نقاط هذه الدراسة، تأكيد الباحث على أن العلاقة بين السياسة والدين تمر عبر الفلسفة، وأن العلاقة بين الفلسفة والدين تمر عبر السياسة، مما يدل على أنه لا يمكن الفصل بين هذه الآفاق الثلاثة: السياسة والفلسفة والدين.
وبخصوص انتقاد ليو شتراوش للحداثة السياسية، فلا يعني ذلك، برأي المصباحي، أنه كان ينتصر لعودة الفلاسفة أو الكهنة لتحمل مسؤولية الحكم السياسي، سواء على المستوى السياسي أو القضائي، وإنما كان يعني ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المعطى الديني. فرجل الدين ضروري للمجتمع، لأنه ينبه إلى بعده الروحي الغامض، هذا البعد الذي قد يكون وراء المعنى الذي يكتنزه الإنسان، قبل أن يختتم مبحثه بالتأكيد على أن مشروع شتراوس السياسي كان يروم ربط السياسي بالديني، بتوسط الفلسفة، أو بالأحرى بتوسط تاريخ الفلسفة، مضيفاً أن فكرة اتصال الحكمة بالشريعة، وفكرة الكتابة المضطهدة التي تخفي غموض الإنسان ــ وهما الفكرتان اللتان استوحاهما شتراوس من الفارابي وابن رشد عن طريق ابن ميمون، كحل لأزمة الحداثة السياسية ــ تبرزان أهمية العودة إلى تاريخ الفلسفة لاستلهام مخرج للأزمات التي تعترض إنسان اليوم.
رجل الدين ضروري للمجتمع، لأنه ينبه إلى بعده الروحي الغامض، هذا البعد الذي قد يكون وراء المعنى الذي يكتنزه الإنسان، قبل أن يختتم مبحثه بالتأكيد على أن مشروع شتراوس السياسي كان يروم ربط السياسي بالديني.
ارتأى الباحث محمد الشيخ الاشتغال على جدلية الدين واللاهوت عند كارل شميت، ملخصاً بداية أطروحة كتاب “اللاهوت السياسي” في نسخته الأولى، وفق ما يلي: ثمة “تماثل بنيوي” غريب عجيب بين المفاهيم السياسية، من جهة، ومفاهيم اللاهوتية، من جهة أخرى، إذ ليست مفاهيم هذين الحقلين من حقول النظر والفعل البشريين تقبل عقد المقارنة، بما يفضي إلى تبين المشابهة، فحسب وإنما الأمر أعجب من هذا وأغرب حسب الباحث. فالنظر الممعن في هذه المفاهيم دل على أن بينهما تناقلاً بحيث أمكن الاستدلال على أن مفاهيم السياسة، إن هي تدبرت وشت بضرب من النقل للمفاهيم اللاهوتية.
“جون رولز والمسالة الدينية: الحرية والتسامح”، هو عنوان دراسة الباحث المغربي مصطفى حنفي؛ وأسس مبحثه من التسليم بأن بؤرة الديني بمعناه القيمي والأخلاقي في الفلسفة السياسية لرولز تتحدد في دائرة المجال الخاص للسياسي، وتحديدا في الصيغة العملية المقترحة التي تفترض أن السياسي يحتضن الديني من منظور سياسي يرتفع بقيمة التسامح عن معارك التصورات الأخلاقية المتعالية، والاعتقادات الدينية الراسخة التي يتبناها الأفراد في المجتمع عن الخير على درجة من العمومية الجامعة.
ويرى الباحث أيضاً أن ما أسهب رولز في صياغته الدقيقة لمبادئ العدالة، يُعد من أهم وأجمل ما خطته الفلسفة السياسية المعاصرة في موضوع النظر السياسي في الدين، لأنه يعرض لنا خلاصة ما يجده جوهرياً في هذا المقام في قوله: عندما يكون هناك أشخاص لهم قناعات مختلفة، ويصدرون عن مطالب هي في نزاع مع البنية الأساسية لمجتمع، وعندما تكون هذه المطالب نفسها ذات طابع سياسي فإنه يكون من المحتم عليهم أن يحكموا عليها من وجهة مبادئ العدالة وهذا يعني، من بين ما يعنيه رولز في هذا المقام، أن المبادئ ستكون مختارة في الوضع الأصلي تمثل نواة الأخلاقية السياسية، فهي وحدها فقط أي باعتبارها مبادئ لا تساعد في تعيين حدود التعارف بين الأشخاص وحسب، بل نجدها تساهم أيضاً في بناء عمل التعاقد من أحل إحلال الوفاق بين مختلف الديانات والمعتقدات الأخلاقية، وبين تعدد أشكال الثقافة التي تنتمي إليها.
بالنسبة لعمر بوفتاس في مبحث “أخلاقيات السياسة”، فقد راهن على معالجة موضوع “أخلاقيات السياسة” باعتبارها شكلاً من أشكال “الأخلاقيات التطبيقية” و”أخلاقيات السياسة” لا تبتعد كثيراً عن العلاقة بين الدين والسياسة، ما دامت في نظر مناصريها مرتبطة بفصل الدين عن السياسة، وتعبيراً قوياً عن الحداثة والعلمانية.
بالنسبة لعمر بوفتاس في مبحث “أخلاقيات السياسة”، فقد راهن على معالجة موضوع “أخلاقيات السياسة” باعتبارها شكلاً من أشكال “الأخلاقيات التطبيقية” و”أخلاقيات السياسة” لا تبتعد كثيراً عن العلاقة بين الدين والسياسة.
“يرسم هيغل الحدود بين الدين والدولة حتى لا يؤول الأمر إلى هدم أحدهما بالآخر”: إنها إحدى خلاصات مقالة “الدين والدولة عند هيغل” لعبد العلي معزوز؛ معتبراً أنه كما لا يمكن أن يقدم الدين حلولاً سياسية، فإنه لا يمكن للدولة أن تتدخل في الإيمان الديني، بينما يمكنها، بل يجب عليها أن تنظم الدين، ولكن فقط عندما يتحول إلى مؤسسة أو إلى انتماء مؤسسي.
واعتبر الباحث أن هيغل عالج في هذه الجدلية مشكلة شائكة وتتعلق بتنازع المشروعية بين الدين والدولة، وهو الأمر الذي نحياه في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بطبيعة السياق الراهن. وباعتباره فيلسوفاً ثاقب النظر في السياسة والدين، يرى أنه ينبغي أن يكون الدين في خدمة الدولة، حتى لا نكون أمام دولة دين وإنما أمام دين دولة.
أما الباحث عز العرب لحكيم بناني، فساهم بمبحث يحمل عنوان: “الخلافة والمُلك”، وانطلق من افتراض يعتبر أن ارتباط الدين بالسياسة كان ارتباطاً عضوياً منذ الأصل، ولا يظهر هذا الارتباط في الإسلام فقط، بل يظهر في مفهوم الدين عامة، مستشهداً في هذا الصدد، بخصوص السياق الإسلامي، بثلاث مواقف: هناك أولاً موقف ابن خلدون وتعالمه مع السلطة السياسية في صدر الإسلام على عهد بني أمية؛ ثم يعتبر أن الانحراف قد جاء بعد ذلك فقط؛ وهناك ثانياً موقف أحد مشايخ الأزهر، علي عبد الرزاق الذي يعتبر أن الخلافة في صدر الإسلام ذاته كان حكماً دنيوياً لا صلة له بالدين؛ وهناك أخيراً، موقف ثالث شخصي ويستند إلى إطار اللاهوت السياسي ويعتبر أن الدين يقوم في جذوره على أسس سياسية منذ الأصل.
ويؤاخذ الباحث على فلاسفة الأنوار مأزق تعميم شعار “اليهودية التي ابتكرت حياة اجتماعية مشتركة دون أن تبدع قيما أخلباقية مشتركة” (بتعبير كانط)، معتبراً أننا إزاء تصور قدحي ألصق بكل الديانات التي لعبت دورًا جوهرياً في تأسيس الهوية الاجتماعية، في حين أن مفهوم الألوهية الذي كان يعتبر محور التصور السياسي للدين، تَعرّض لقراءات فلسفية وإشراقية وصوفية متباينة، ولقراءات عقلانية وظاهراتية جديدة.
نأتي لإحدى أهم دراسات العمل، وتحمل عنوان: “الدين والمجتمع والسلطان السياسي في الفكر الإسلامي” بقلم عبد الحق منصف؛ وقد ارتأينا استعراض أهم مضامينها من خلال الاستشهاد بالنقاط التالية:
ــ إن الوعي بالطابع الاجتماعي للدين أو بالدين باعتباره سلطة اجتماعية لم يكن حديثاً كل الحداثة، بل هو أيضاً حاضر بقوة في نصوص المفكرين الإسلاميين أمثال الفارابي وإخوان الصفاء، وأبي حامد الغزالي وابن خلدون وغيرها من نصوص الآداب السلطانية؛
ــ حينما يتحول الدين غلى مؤسسة من مؤسسات الدولة، فهو يدعم السلطان السياسي للحاكم، بل يمده بما يجعل السلطان السياسي استبداداً وتسلطاً وقهراً وغلبةً… هنا يصبح أحد المكونات التاريخية للحياة البشرية يستدعي معالجة تستلهم الأفق التاريخي للأمة والأفراد. وهي معالجة تنطلق من مرجعيات الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية. ويجب هنا أن تسير البحوث في اتجاه تفكيك النسيج الرمزي والتاريخي الذي يربط مفاهيم الدين والسلطة والدولة؛
حينما يتحول الدين غلى مؤسسة من مؤسسات الدولة، فهو يدعم السلطان السياسي للحاكم، بل يمده بما يجعل السلطان السياسي استبداداً وتسلطاً وقهراً وغلبةً.
ــ مطلوب اليوم العودة بالدين إلى أصله: إلى كونه سلطة أخلاقية، وتحرير مفهوم الدولة من إيديولوجيا الدين والطاعة والتمثل الرعوي، فالدولة مؤسسة دنيوية كما قال ابن خلدون، إنها تغَلّب ملكي؛ والتدبير السياسي صناعة ملكية أو مهنة ملكية كما ارتأى الفارابي وإخوان الصفا وابن رشد فيما بعد، مما يقتضي إعادة النظر في توزيع العلاقة بين الحقول الاجتماعية الأساسية: الحقل الديني والحقل السياسي وحقل إنتاج المعرفة؛
ــ ليس الدين إكراهاً خارجياً، أو سلطة على الجسد، كما اتضح لمفكري الإسلام ورواد نظرية الآداب السلطانية كما رأينا. إنه سلطة على الروح والنفس وعلاقة حميمية بين الفرد كفرد وبين ربه، علاقة تغدي سلوكه الاجتماعي تجاه ذاته وتجاه الغير.
“في التسامح والحق في التنوع الثقافي” هو عنوان مبحث عبد الرزاق الدواي، حيث يثير بعض المفارقات حول “أخلاقيات التواصل والحوار بين الثقافات”، وكشفت عنها دراسة باحثين غربيين معاصرين؛ ومنها مثلاً أن العقل الغربي عموماً، بمقدار ما يدعو إلى ضرورة الاعتراف بالطابع العالمي والكوني لمفاهيم معينة مثل الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مفاهيم يمكن أن نسلم بأنها من بنات ثقافته وحداثته، بمقدار ما يلاحظ أنه يسجن نفسه في خصوصيات هويته الثقافية الضيقة، بل يتمادى في إصراره على إقصاء ثقافات الآخرين وتهميشها إلى حد يبدو فيه وكأن الهوية الثقافية للغرب بصفة عامة، مسكونة دوما بعقدة التفوق والاستعلاء على ما سواها من الهويات الثقافية الأخرى.
وجاءت آخر دراسات الكتاب بالفرنسية تحت عنوان: “سؤال الحقيقة في الأديان” بقلم جوزيف معلوف، والدراسة عبارة عن قراءة استطلاعية في بعض المقاربات الدينية والفلسفية لمفهوم الحقيقة، وقد ارتأى الباحث تبني خيار نقد احتكار “الحقيقة الدينية” عند الناطقين باسم الديانات للتوحيدية الثلاث، كما نوَّه في أكثر من مناسبة بأطروحة هانز كونغ التي تحمل عنوان “نحو أخلاقيات عالمية أو كونية.