الدين والحياةسلايدر

التمييز بين الديني والثقافي في تدين المسلمين لعبد الرزاق وورقية

بقلم ✍️ منتصر حمادة

 هذا كتاب مفيد لأبناء الجاليات المسلمة في الغرب، لأنه يشتغل على ما يُشبه الابتلاء الذي تعرضت له مع ظهور بعض أنماط من التديّن المشرقي (سلفية وهابية، تشيع، إخوان.. إلخ)، أفضت إلى سقوط نسبة من هذه الجاليات في الخلط بين كثير من الأمور المتشابهة ظاهراً والمتباينة حقيقة، كخلطهم بين الأمور التعبدية والأمور العادية، وعدم تمييزهم بين الامتثال للتعاليم الدينية بقصد التعبد والتوسل بالتدين لأغراض مناقضة للقصد الشرعي، وجمعهم بين الإيمان بأمور الغيب السمعية والاعتقاد في الأوهام والخرافات والأساطير، وتسويتهم بين قراءة القرآن تعبدا ورُقية، وبين قراءته على طريقة الشعوذة والسحر. (صدر العمل ضمن سلسلة كراسات، عن مجلس الجالية المغربية بالخارج، الرباط، ط 1، 2020)

ومعلوم أن هذه العقليات أصبحت السمة الغالبة على بعض طوائف المسلمين، بل وأنشئت على أساسها فرق ومجموعات دينية عاثت فساداً في عقائد المسلمين وسلوكهم الديني، ومن بين أنواع اللّبس الخطير الواقع في التديّن الإسلامي اليوم، وله أثر بارز في تصرفات الناس، وتأثير سلبي مباشر على دين الإسلام وأهله، ذلك الخلط الجاري بين الأمور الدينية التكليفية وبين الأمور الثقافية العادية، حيث تم حمل الثانية على الأولى على أساس أنها منها ومن جنسها، وتم التشبث بها والتضييق بواسطتها على الناس، حتى أصبحت تلك المظاهر الثقافية العرفية جزءا من الدين، يتصارع المتدينون مع أهل الثقافات الأخرى على أساسها، ويستعملون الحجة الدينية في ذلك الصراع بصورة مسيئة للدين ولأهله، كما نقرأ لمؤلفه، عبد الرزاق وورقية.

يظهر هذا الخلط جلياً عند بعض مسلمي المهجر في مجتمعات متعددة دينياً وثقافياً، حيث ينشأ صراع ثقافي ولكن بلباس ديني، وتتم الإساءة إلى دين الإسلام، ولاسيما عند الوافدين عن طريق الهجرة الذين يقع لهم خلط – بحكم التربية المُلقنة – بين الثقافي والديني في تدينهم، كالتشبث ببعض السلوكات الثقافية على أنها دينية إسلامية كالسلوك الثقافي في اللباس، والهيئة والأكل والشرب، وطريقة العيش، وطريقة التدبير الأسري، وعلى هذا، تفرغ المؤلف للاشتغال على فك الإشكال الواقع نتيجة عدم التمييز بين الثقافي والديني في السلوك الديني الإسلامي، وتصحيح مسار التعبد وفق مقاصد الدين، كما هي مستقرأة من الأدلة الشرعية الثابتة، والتمييز بين ما هو مقصود شرعاً، وما هو عادي ثقافي معفو عنه، ولأجل هذه الغاية العلمية النبيلة، حاولت تعميق النظر في هذا البحث مبينا المسلك القويم للتمييز بين الجانبين، حيث قام بداية بالتدقيق في مفاهيم “الديني” و”الثقافي” في تداول أهل الاختصاص، وجرد ضوابط كل منهما، حتى إذا حصل التعريف والضبط، أفضى إلى تحديد الفروق بين الجانبين معضداً بحثه بشواهد من الشرع الإسلامي وبأمثلة من الواقع المعاصر، محترماً السياق الخارجي حيث التنوع الثقافي والديني هو العرف السائد والمحكم، وقد بسطت هذا وفق المطالب الآتية: المطلب الأول: الديني والثقافي: تحديد المفهوم؛ المطلب الثاني: ضوابط كل من الديني والثقافي؛ المطلب الثالث: مقتضيات التمييز بين الديني والثقافي.

جاء المطلب الأول موزعاً على المحاور التالية: تعريف “الديني”، الدين في اللغة، تعريفات بعض مفكري الإسلام للدين، تعريفات بعض مفكري الغرب للدين، تعريف السلوك الثقافي.

أما المطلب الثاني، فتضمن المحاور التالية: ضوابط كل من الديني والثقافي؛ بالنسبة لضوابط الديني، فنجد أربع ضوابط: ورود الدليل الصحيح على كونه من التكليف، أن يثبت فيه نمط ديني متبع، أن يكون من شرط صحته قصد التعبد، أن يظهر في الفعل وجه للتعبد به غير خصوصي.

بالنسبة لضوابط السلوك الثقافي، فكانت موزعة بدورها على أربع ضوابط: اختلافه باختلاف الأقوام والمجتمعات، لا وجه للتعبد فيه في ذاته، ليس فيه نمط ديني موحد يتأسى به، التعلق الشديد للناس بها.

وأخيراً، فصل بعنوان مقتضيات التمييز بين الثقافي والديني في المنظومة الفقهية الإسلامية، وموزع أيضاً على أربع مقتضيات: تحكيم الكليات المقاصدية في الترجيح بين الثقافي والديني، ضرورة التمييز بين العادات والعبادات، التمييز بين بعض الوظائف الشرعية، ضرورة الانخراط في التحضر المجتمعي المعاصر.

في الاشتغال على مفهوم الدين، خلص المؤلف إلى أنه يمكن إطلاق لفظ “دين” على أي من المعاني السابقة، في سياقها التعددي، ولا سيما في المجتمعات المتسمة بالتنوع الثقافي والديني كالمجتمعات الأوربية والغربية، ذلك أنه لا يمكن إخراج أي نوع من تلك المجموعات الدينية من دائرة الدين، إذ أن السياق الجامع هنا هو التعايش على أساس القبول بالتعدد والتنوع الديني والثقافي، وليس سياقاً لتقييم الاعتقادات والتصورات والحكم عليها بالخطأ والصواب: فلا تخطئة ولا تصويب عندما يتعلق الأمر بالتعايش مع الآخرين المخالفين في الدين، فالتخطئة تستلزم إسقاط حجة الآخر قبل التواصل والحوار معه، وهذا يلغي الآخر من الوجود قبل اللقاء معه، بينما يقتضي الحوار الاحتكام إلى الأصل العقلي قبل بعثة الرسل وتنزل الشرائع، وهو المساواة بين الطرفين، وهذا ما أقرته القاعدة القرآنية الحاكمة هنا التي هي قوله تعالى: “وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”.

أما في الاشتغال على مفهوم الثقافة، فقد خلص المؤلف، انطلاقاً من مراجع غربية على الخصوص، إلى أن مفهوم السلوك الثقافي وفق تعريف بروديل السابق يتطابق إلى حد كبير مع مجموع الأعراف والعوائد بالمعنى المتداول عند مفكري الإسلام، فالنمط الثقافي العرفي يكتسح جميع المجالات الحياتية لمجتمع ما، وبذلك يمكن أن يلتقي مع الديني موافقة أو مخالفة أو تغطية لمجال سكتت عنه النصوص الدينية.

ــ الحالة الأولى: هي حال الموافقة لمقاصد الدين، كالأعراف المجتمعية الصالحة والتي أمر الدين نفسه باعتبارها، بل جعلها من مصادر التشريع في كثير من تفاصيل المعاملات كتحكيم أعراف الناس في كثير من القضايا التي أسندها الشرع إلى عوائد المجتمع، كبعض التقديرات المالية والزمانية، وبعض الأمور القضائية كتحديد المدعي من المدعى عليه، وملكية المتاع، وغيرها…

ــ الحالة الثانية: هي حال المخالفة لمقاصد الدين، ومثالها البارز الأعراف الفاسدة التي تنتهك الكليات الضرورية، كقتل النفس تقربا إلى صنم، أو وأد البنات خوفا من العار أو الفقر، أو تقديم قرابين للجن أو الأرواح الشريرة حسب بعض الثقافات…

ــ الحالة الثالثة: وهي دائرة الأعراف الثقافية المسكوت عنها، وهي واسعة تشمل جميع أنماط العيش المجتمعية التي لم ترد فيها نصوص خاصة، فهذا المجال رحب واسع، وهو دليل رحمة الدين وواقعيته، وقد تم تدبيره في علم الأصول والمقاصد بمراعاة مجموعة من الضوابط، تدور في أغلبها على خدمة المقاصد الكلية للشرع كما سيأتي بيانه بعد.

من خلاصات الكتاب، نقرأ أن الإسلام بوصفه، الدين السماوي، البالغَ إلينا كتابه بالمعجزة والتواتر، لم يكن أبداً في يوم من الأيام معرقلاً للفعل الحضاري، بل بالعكس من ذلك كان مُنشئاً لحضارة مستقلة بذاتها ابتدأت بالأمر بالتعلم “اقرأ”، واستمرت بأوامر الاعتبار في الكون والتفكر والتعلم والحجة والحكمة. وساهمت من جانبها في تطور الحضارة الإنسانية، وقد شهد بهذا العقلاء من الناس شرقاً وغرباً ومن لدن جميع الأمم، وعليه، لا يليق بالمسلمين اليوم الالتفات إلى دعاوى التعارض والتضاد المفتعلة بين الدين والرقي الإنساني الحضاري، لإن الانشغال بذلك ضرب من التفاهة والسفاهة الفارغة.

ويضيف وورقية أنه إذا تقرر هذا وبانت حجته، فإننا نسجل أن هناك وعياً متنامياً لدى فئة عريضة من المسلمين، استطاعوا الجمع بين الأوامر الدينية والمتطلبات الحضارية فأصبح عندهم التحقق الكامل لمفهوم “التديّن الحضاري”، حيث اجتمعت فيهم مقاصد الدين ومقتضيات الحضارة، فإن كانوا في الدين فهم الواقفون عند أمره من حيث الالتزام بالأوامر والاجتناب للنواهي. وإن كانوا في الحضارة فهم أهلها الأصلاء، من حيث الذكاء والخدمة والنظام والتمكن البارع من الأخذ بأسباب التحضر دون إخلال بالمقاصد الإنسانية النبيلة من تسامح وكرم ونظافة ورحمة، وهذا هو المنهج الوسط الذي يجمع محاسن الأشياء، وينمي الجوانب الإيجابية أينما كانت، ويتقي المفاسد في أي جهة كانت.

زر الذهاب إلى الأعلى