سفر جمالي لعبد الباقي مفتاح في سيرة محيي الدين بن عربي
بقلم ✍️ منتصر حمادة
تضاربت مواقف المتتبعين من محيي الدين بن عربي، وما نعتقد أنه يوجز بامتياز هذه المواقف، ما نطلع عليه في كتاب “باطن الإثم: “خذوا من ابن العربي وصاياه، واتركوا له فتوحاته، اقرؤوا من كتبه “روح القدس في محاسبة النفس”، الكتاب الذي يكشف عن عيوب المسلمين، وما يختبئ خلف مظاهرهم من النقائص، ومظاهر الرياء والسمعة، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، ودعوا له أحواله وشطحاته، وما لا تفهمون من أقواله”.
بهذه الشهادة الصادرة عن محمد سعيد رمضان، اختتم الكاتب عبد الباقي مفتاح مبحثاً عن شيخ أهل التصوف، الإمام محيي الدين ابن عربي، وبنفس الشهادة نفتتح هذا العرض الموجز في الكتاب يُعتبر عملاً نوعياً حول صاحب “الفتوحات”، وجاء تحت عنوان: “ختم القرآن.. محيي الدين محمد بن العربي”، وصدر عن دار “القبة الزرقاء”، مراكش، ضمن سلسلة “حكمة”.
ترتبط فورة الإصدارات والدراسات الخاصة بأعمال ابن عربي، بما يُشبه الإجماع عند متتبعي حقل التصوف ـ وقد أشار إليه المؤلف في تمهيد الكتاب ـ ومفاده أن أعظم ترجمان عن المعارف الصوفية كيفاً وكماً هو الشيخ محيي الدين محمد بن علي بن العربي.
لقد تناقضت مواقف الناس منه بين مدح التقديس وقدح التنقيص، فرموه بالإلحاد أو الكفر أو الزندقة، وزعموا أنه يقول بـ”رفع التكليف الشرعي” و”الإباحية”، وقيل إنه رائد فلسفة وحدة الوجود، وقيل إنه ظاهري المذهب في العبادات باطني في المعتقدات، وقيل إنه من أعلام اللغة العربية نثراً وشعراً، وقيل إنه “أعرف بكل فن من أهل كل فن”، وقيل إنه من “أعظم أولياء الإسلام” وإنه “قطب المقربين ومربي العارفين”، وقيل إنه “خاتم الولاية المحمدية الخاصة”، فله أعلى مقام بعد الأنبياء والصحابة الكرام، وأما مؤلفاته، وفي مقدمتها “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم”، فقد قال عنها المنكرون إنها مشحونة بالإلحاد والعقائد الضالة، وقال عنها المناصرون إنها البحار الدافقة بأنفس جواهر الحقائق. ولكن الملاحظ هو أن أكثر المادحين والقادحين لم يطلعوا على سيرته ولا طالعوا تآليفه الكثيرة الغزيرة بجدية وعميق، ومواقفهم ناتجة عن تقليد للمحيط الثقافي والعقدي الذي تأثروا به.
يُشير الكاتب بداية إلى أنه تجرأ لتحرير هذا المبحث بهدف بيان الحقيقة القرآنية المحمدية الأصيلة للشيخ محيي الدين؛ فسيرته ـ مع شهادات معاصريه من العلماء والصالحين والملوك ـ تظهر أنه كان نموذجاً للرجل القرآني الذي اتحد عشقه في التطبيق العملي والوجداني قلباً وقالباً للسنة المحمدية، وجل من حظي بالقرب من دائرته ـ من أفرد أسرته والشيوخ والعلماء والأولياء الذين صحبهم والتلاميذ والمريدين الذين صحبوه والحكام والملوك الذين طلبوا مشورته في المشرق والمغرب ـ رباهم على التحقق بالقرآن والتخلق بالشمائل المحمدية.
إضافة إلى إصدارات محيي الدين بن عربي، اعتمد المؤلف على مجموعة من الدراسات التي تطرقت لأعمال الشيخ، مع التركيز على ما اعتبره أهم المراجع بعد هذه المؤلفات، ويتعلق الأمر بكتاب للباحثة الفرنسية كلود عداس وعنوانه “ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر”، وهو في تقدير عبد الباقي مفتاح، أحسن تأليف إلى اليوم حول سيرة الشيخ والمحيط الذي عاش فيه.
الاشتغال على سيرة ابن عربي إذاً، هو بيت القصيد في كتاب “ختم القرآن”، وجاء الكتاب موزعاً على خمسة فصول: “أسرة الشيخ”، “التكوين القرآني والشرعي والعلمي للشيخ ومواقفه من مختلف الطوائف”، “التكوين الصوفي للشيخ”، “سياحات الشيخ في المغرب الإسلامي”، “الشيخ في المشرق”، إضافة إلى جدول يجسد خلاصة لأبرز الأحداث في سيرة الشيخ وعصره.
بالتوقف عند أسرة الشيخ مثلاً، مثير أن نعلم بأن مكانة المرأة عند ابن عربي تضاهي “حقيقة الحقائق” أو “أم الكتاب مفتاح الوجود” من حيث احتضان وحمها لأكمل وأجمع صورة أي الإنسان.
في النهل من السنة النبوية، نجد أن الورعين من المنكرين على الشيخ مشربه العرفاني يعترفون له بالتمسك التام بالسنة الشريفة، ونذكر من هؤلاء العلامة محمد الذهبي؛
وفي النهل من خزائن لغتنا العربية، نشير إلى إجماع المنكرين والمحبين للشيخ بأنه أحد أعلام العربية، تشهد بذلك تآليفه التي تعد بالمئات، وفيها كل أشكال البلاغة والبيان والبديع نثراً وسجعاً ونظماً. ومن فتوح العبارة تدفق الشعر غزيراً فياضاً من روح الشيخ على لسانه حيث نظم أزيد من أربعين ألف بيت، وفي الفتوحات وحدها نحو 7100 بيت، وله مجموعات شعرية مستقلة كديوان “ترجمان الأشواق” وديوان “إنزال الغيوب على سرائر القلوب”؛
وفي مواقفه من المذاهب والتيارات، لا ينتصر الشيخ لموقف مُعين من مواقف مختلف طوائف المتكلمين، بل يُبَين وجهة نظر واجتهاد كل طائفة، وهو يعذر كل مجتهد، حتى وإن أخطأ، إذا بلغ غاية جهده في الاجتهاد ولم يناقض نصاً شرعياً ثابتاً. ولكنه في المقابل، ينكر أشد الإنكار على طائفتين:
ــ طائفة الباطنية أو الفلاسفة الذين يؤولون النصوص الشرعية حسب هواهم بإخراجها عن دلالتها الظاهرة، أو الذين يعتقدون أنها جعلت لسياسة العامة لا الخاصة؛
ــ وطائفة المتعصبين من أهل الفقه الذين يرجحون التقليد أو الرأي على الحديث الصحيح الثابت، أو يحاربون الحكام بتحريف أحكام الشرع، كما ينكر على المولعين بالإسرائيليات وغرائب الأخبار غير ثابتة.
وقد أساء قوم قديماً وحديثاً بذمهم الشيخ، زاعمين أن عقيدته فاسدة، وقصدهم الدفاع عن العقيدة الصحيحة حسب فهمهم، وهؤلاء، برأي المؤلف، لم يفهموا كلام الشيخ على حقيقته، وقد بَيّن خطأهم كثير ممن انتصروا للشيخ، ومن أواخرهم الشيخ محمود الغراب الدمشقي خصوصاً في كتابه القيم “الرد على ابن تيمية وشرح كلام الصوفية من كلام الشيخ محيي الدين بن العربي”. ولأن الحديث عن ابن عربي يحيل عند البعض، على قلاقل “الحلول” و”وحدة الوجود” وكل ذلك الكلام الكبير قولاً والشائك تصوراً، يؤكد عبد الباقي مفتاح بشكل قطعي أن الشيخ برئ تماماً من القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود بالمفهوم الفلسفي الذي يتوهم أن العالم أو المخلوق هو عين الخالق.
بالنسبة للتصوف عند ابن عربي، وجب التنبيه أولاً إلى أن التصوف ليس فلسفة، وإنما هو التحقق بمقام الإحسان في الدين، والدليل على هذا، حسب المؤلف، أن جل الأولياء وشيوخ التصوف وأئمة الطريق لم يتعلموا الفلسفة، لأن التصوف عندهم ما هو إلا أخلاق قرآنية وشمائل محمدية، ومنهجية الإيمان والتقوى والذكر والصفاء؛
وأما منهج الفلاسفة فيعتمد على النظر الفكري بالمنطق، كما لم يهتم الشيخ بالفلسفة ولا سعى لمطالعة كتبها، وإنما اطلع على بعض أقوال الفلاسفة من خلال مطالعاته في كتب الشريعة والتصوف والكلام، خصوصاً كتب أبي حامد الغزالي وابن مسرة الجبلي وابن السيد.
أما عن صحبة محيي الدين للأمراء والملوك، فقد ثبت أن العديد من الملوك من المغرب والمشرق اتصلوا بالشيخ للاستفادة من مشورته ونصائحه أو حتى الدخول تحت تربيته، ففي المغرب مثلاً، نجد على الأقل خمسة أمراء اتصلوا به وكانوا مُجلين له، نذكر منهم الخلفية الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور الذي عرض عليه الالتحاق بديوانه فرفض الشيخ ذلك، وهناك أيضاً أمير فاس وأمير جنوب المغرب صديق الشيخ أب يحيى بن وجاتن هو وكاتبه، والسلطان أبو العلا في شمال المغرب وفي المشرق اتصل الملوك الأيوبيون والسلاجقة بالشيخ وكانوا يعظمونه ويمتثلون لجميع أوامره.
وعن صحبة الشيوخ، فقد بدأ صحبتهم وعمره عشرون سنة، وكان يعتبر أبا مدين، دون سواه، من أكبر شيوخه إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، رغم أنه لم يجتمع به جسدياً، وإنما كانا على صلة روحية وثيقة، بل يمكن القول إن السنوات العشر الأولى من دخول الشيخ للطريق رياضةً وسلوكاً (من 580 إلى 589)، كانت جلها في دائرة روحانية أبي مدين.
نختتم هذا العرض بالتوقف قليلاً مع مجلد “الفتوحات المكية”، حيث تشير المعطيات الواردة في الكتاب إلى أن ابن عربي بدأ كتابه هذا بمكة المكرمة في عام 599 هـ، وعمره أربعون سنة، وانتهى منه عام 629 هـ بدمشق. ثم أعاد كتابته مع تعديلات وزيادات بين سنتي 632 و636 هـ، فانتهى منه قبل وفاته بسنتين، ولا شك عند كل متتبع منصف أن هذا الكتاب يُعتبر أعظم كتاب في التصوف الإسلامي وفي المعارف الإلهية، و”هذا الكتاب مع طوله كثره فصوله وأبوابه” ـ والكلام هذه المرة لابن عربي ـ ما استوفينا فيه خاطراً واحداً من خواطرنا في الطريق، فكيف الطريق؟ ـ يقصد طريق التصوف بطبيعة الحال ـ ولا أخللنا بشيء من الأصول التي يعول عليها في الطريق، فحصرناها مختصرة العبارة بين إيماء وإيضاح”.
نشير أخيراً إلى أن الكتاب يُعتبر الإصدار السابع عن مؤسسة دار “القبة الزرقاء” المراكشية، ضمن سلسلة “حكمة”، وتشتهر الدار عند المتتبعين بنشر المؤلفات التي تتطرق لموضوع التصوف، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، “مفاتيح فصوص الحكم”، لنفس المؤلف، “الولاية والنبوة” لميشيل شود كيفيتش، تقديم وترجمة أحمد الطيب، “التجانية” لعبد العزيز بنعبد الله، “تقييدان في وحدة الوجود” لأحمد بن عجيبة الحسني، ومؤلفات أخرى.