الدين والحياةسلايدر

إسلاميات… الفشل الفرنسي المركب في تدبير المسألة الإسلامية

بقلم ✍️ منتصر حمادة

تناسلت المتابعات البحثية والإعلامية داخل وخارج فرنسا، على هامش التداعيات التي تلت خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2 أكتوبر 2020، والذي أثار العديد من التفاعلات المحلية هناك، والإقليمية في أوربا، والإقليمية هنا في المنطقة العربية، بل إن التفاعلات وصلت إلى الساحة الأمريكية والكندية، إلى درجة جعلت الرئاسة الفرنسية تتفاعل معها، لاعتبارات عدة، منها أن فرنسا تضم أكبر أقلية مسلمة في أوربا، برقم يتراوح بين 6 و7 ملايين نسمة، ولأن النموذج الفرنسي في تدبير الشأن الديني، والمؤطر بقانون 1905، يبقى حالة خاصة في الساحة الغربية، ولا زال محط نقاش محلي وخارجي، بما في ذلك النقاش الذي يدعو إلى تعديل جزئي لهذا القانون، ومنها أيضاً أن تدبير الدولة الفرنسية للظاهرة الإسلاموية، في شقيها الإخواني والجهادي، يُعتبر اختباراً يمكن أن تستفيد منه باقي الدول الغربية، بصرف النظر عن تناقضات وأزمات هذا التدبير.

السؤال الذي يجب طرحه بشجاعة هنا هو كالتالي: ما هي مجمل الأسباب التي أفضت إلى هذا الوضع المتوتر لتدبير المسألة الإسلامية في فرنسا، بعد عقود من محاولات انتهت بالفشل، وجعلت أعلى سلطة سياسية في البلاد، تعلن أمام الرأي العام أنها ستنخرط في مواجهة “الانفصالية الإسلاموية” حسب الخطاب سالف الذكر؟

يجب التذكير بداية أننا نتحدث عن تدبير الدولة الفرنسية للمسألة الإسلامية، في إحالة على واقع الأقلية المسلمة من جهة، وواضع الظاهرة الإسلامية الحركية من جهة، بصرف النظر عن التقاطعات بين الملفين، لأنهما مرتبطان أو متلازمان في نهاية المطاف، ما دامت الأقلية الإسلاموية، والتي يتراوح عددها ما بين 90 و110 ألف نسمة، تنتمي إلى الأقلية المسلمة بشكل عام، وإن كان الأمر يتعلق هنا بأقلية الأقلية، إلا أنها حاضرة من خلال عدة حركات وجماعات وتيارات (السلفية، الدعوة والتبليغ، الإخوان، الحالات الجهادية.. إلخ).

نزعم أن أسباب هذا الفشل الفرنسي الرسمي في تدبير المسألة الإسلامية مرتبط بمجموعة من المحددات، نذكر منها أربعة على الأقل:

1 ــ توجد المنظومة العلمانية الفرنسية ضمن هذه الأسباب، والإحالة على النموذج الفرنسي في تدبير المسألة الدينية، والذي يؤطره قانون 1905، ويتميز هذا النموذج بأنه صارم أو متشدد مقارنة مع باقي النماذج الأوربية والأمريكية، بما في ذلك النماذج الخاصة بالملكيات الأوربية، من قبيل بريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا، حتى إنه صدرت مجموعة من المؤلفات خلال العقدين الأخيرين، تصب في إعادة النظر المطلوبة في هذا القانون، وإن لم تصدر بشكل مباشر، وإنما جاءت في من خلال إحالات على عدة أنماط من العلمانية، وبالتالي لا يمكن الإبقاء على نموذج نمطي وموحد عند الفرنسيين في تدبير الملف الديني، ومن أهم هذه الأعمال، كتاب الباحث جون بوبيرو، المتخصص في موضوع العلمانية ومؤلف كتاب “النماذج السبعة للعلمانية”، وأعمال أخرى.

تعتبر هذه المنظومة أرضية نظرية دستورية تخول للنخبة اليمينية الفرنسية تبني بعض المواقف التي تعقد الصورة أكثر، بل إن الغلو في الدفاع عن تلك المنظومة، يوجد ضمن أسباب ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، في شقها المعادي للإسلام، وليس الإسلاموفوبيا التي تفيد نقد الإسلاموية، لأن نقد هذه الأخيرة قائم حتى في الدولة العربية والإسلامية، وبالتالي تحصيل حاصل أن نعاينه في الدول الغربية، ومنها فرنسا.

2 ــ من أسباب هذا الفشل أيضاً نذكر تواضع الإصدارات البحثية النوعية التي تشتغل على الموضوع، حيث بالكاد كانت هناك بعض الأصوات القليلة التي اشتهرت بالتفرغ لملف الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ أربعة عقود، أو الإسلام والمسلمين والإسلاميين في فرنسا، وخاصة خلال العقدين الأخيرين.

ولا يقتصر الأمر هنا على هذه الجزئية، بل يصل إلى تواضع الوزن العلمي لأغلب الباحثين الفرنسيين وغير الفرنسيين من المقيمين هناك، ممن يشتغلون على الموضوع، مقارنة مع الوزن العلمي للرموز الاستشراقية الفرنسية في حقبة ماضية، من قبيل ماكسيم رودونسون، جاك بيرك، لويس ماسينيون، وأسماء أخرى، وقد سبق لبعض الأسماء أن خطرت من معضلة هذا التراجع النوعي في الاشتغال الرصين على هذه القضايا، مقابل الحضور الكمي، ونذكر من هذه الأسماء، محمد أركون وجيل كيبل، أحد الباحثين المقربين من دائرة صناعة القرار في فرنسا، حيث وجه الدعوة في كتابه “الانكسار” مثلاً، ضمن إشارات أخرى في السياق نفسه، لصناع القرار والباحثين ومختبرات الأبحاث إلى ضرورة فهم مُعمق للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، عبر التمكن من لغات المنطقة، وأدوات التاريخ والأنثروبولوجيا، حتى لا نسقط في التخبط الذي عايناه أثناء التفاعل مع أحداث “الثورات العربيةّ”، والتي اختزلها بعض النقاد عبر استحضار مفهوم “صدام الحضارات” لصامويل هنتنغتون، مضيفاً أن الأمر لا يختلف كثيراً في الساحة الفرنسية، بدليل ذكاء الفاعل الإسلاموي في ملأ الفراغات وتوظيف كل ما صالح للتوظيف، قصد خدمة مشروع الإسلاموية، باسم خدمة الجالية العربية والأقلية الإسلامية، بل اتهم الإسلاميين بالاستحواذ على مقام النطق باسم الإسلام هناك، وتحديداً عبر بوابة “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، وهي جمعية محسوبة على المرجعية الإخوانية كما هو معلوم.

3 ــ نأتي لسبب ثالث، نحسبُ أنه ساهم في تعقيد تدبير الدولة الفرنسية للمسألة الإسلامية، وعنوانه تغلغل الإسلاموية الدعوية والسياسية والجهادية في الساحة، وخاصة في ضواحي المدن الكبرى، وهو تغلغل مركب، ومرتبط بعدة أسباب، بعضها خاص بفشل الحكومات الفرنسية في السياسات العمومية الخاصة بالأقلية المسلمة، وبالتحديد بالضواحي، لأنه لا يمكن الحديث في قانون 1905 عن سياسة عمومية خاصة بجماعة دينية أو طائفية دينية؛ أما الأسباب الأخرى، فمرتبطة بتداعيات الصراع الإقليمي بين دول المنطقة على تدبير المسألة الإسلامية، وهو الصراع الذي كان قائماً من قبيل بين بضع دول، وهي الجزائر والمغرب بحكم وجود نسبة كبيرة من الجالية المغاربية في المشهد الإسلامي، ومعها تركيا والسعودية، قبل أن تتدخل بعض الدول الخليجية في تدبير الصراع، وخاصة خلال العقد الأخير.

لقد أفضى هذا الصراع إلى أصبح يُصطلح عليه بظاهرة “إسلام القنصليات”، والتي كانت سائدة منذ عقود مضت، ولا زالت مستمرة، وهي متوقعة في الواقع إن صدرت عن الثنائي المغرب والجزائر، بل إنها ضرورية وطبيعية إن صح التعبير، بحكم وجود نسبة كبيرة من أبناء الجالية المغربية والجزائرية في مشهد الهجرة هناك، إلا أن تدخل دول مشرقية في المشهد، تدافع عن التديّن السلفي الوهابي، كما هو الحال مع السعودية (قبل مرحلة الأمير محمد بن سلمان)، أو تدافع عن التديّن الإخواني، ساهم في إثارة عدة مشاكل للجالية المغاربية والإفريقية المسلمة، والتي كانت في الأصل، تنهل من تديّن سني، مالكي أشعري، وبعضه صوفي، ولكن قدوم الرياح السلفية الوهابية والرياح الإخوانية، خلخل الكثير من مميزات ذلك التديّن، على غرار ما عاينا في العديد من دول المنطقة العربية أيضاً.

4 ــ هناك سبب رابع، عنوانه فشل كبير في تدبير المسألة الإسلاموية بالتحديد، موازاة مع معضلة تغلغلها في الساحة، سواء تعلق الأمر بالإسلاموية السياسية أو الظاهرة الجهادية، بينما الأمر مختلف مع الحركات الإسلامية الدعوية، لأنها بعيدة عن الهواجس السياسية، إضافة إلى أن باب الحق في التعبير وسقف الحرية في فرنسا، بمقتضى تراكم في مجال الفلسفة السياسية، يُخول لهذه الحركات الإسلامية الدعوية الحضور الميداني بشكل أرحب.

ويتفرع هذا الفشل على ملفين بارزين، وهما أكثر إثارة للقلاقل: الفشل في تدبير الحالة الجهادية، والفشل في تدبير الحالة الإخوانية، والفشل في تدبير الحالة السلفية بشكل عام، مقارنة مع غياب أي قلاقل أو أزمات مرتبطة بالتديّن الصوفي، وبدرجة أقل، التديّن الخاص بجماعات “الدعوة والتبليغ”.

وليس خطاب 2 أكتوبر 2020 سالف الذكر، إلا اعترافاً رسمياً، بشكل أو بآخر، بأن الدولة الفرنسية فشلت في تدبير المسألة الإسلامية في فرنسا، بعد عقود من المبادرات والقرارات والإنجازات، إلا أنها أفضت في نهاية المطاف، على الأقل حتى نهاية 2020، إلى إعلان أعلى سلطة سياسية في الدولة، بأن هناك معضلة ميدانية تسمى مرتبطة بالانفصالية الإسلاموية، كان من المفترض أن تكون الدولة نفسها، في مقدمة المشتغلين على الأسباب التي تحول أن تصل إلى هذا المنعطف.

نقول هذا بصرف النظر عن وجود المعضلة نفسها في العديد من الدول العربية، وخاصة الدول المغاربية، حيث نعاين وجود الانفصاليات نفسها، مع عدة مشاريع، إلا أن هناك عدة فوارق بين النموذج الفرنسي في تدبير المسألة الدينية، مقارنة مع النماذج العربية والإسلامية، لعدة أسباب، بعضها أشرنا إليه أعلاه.

زر الذهاب إلى الأعلى