المواطن

حدائق مراكش التاريخية .. فضاءات خضراء تسر الناظرين

تضم مدينة مراكش، إلى جانب أسواقها التقليدية المتنوعة وأزقتها المتعددة وقصورها ومآثرها التاريخية، فضاءات خضراء لحدائق تاريخية تعود إلى قرون طويلة من التاريخ، أصبحت معها تشكل جزءا لا يتجزأ من هوية المدينة الحمراء.

وتساهم هذه الفضاءات الخضراء، بقيمتها التاريخية والحضارية، في تحسين جودة الهواء والنهوض بالجانب الإيكولوجي للمدينة، وتشكل مصدرا للترويح عن الساكنة المحلية خلال فترات الحرارة ومتعة للناظرين، على اعتبار أنها تضفي على المدينة جمالية خاصة.

وبرزت أهمية هذه الفضاءات الخضراء بشكل كبير خلال رفع الحجر الصحي بالمملكة، ضمن الجهود الرامية إلى محاربة انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)، حيث بدأت الحدائق وساحات هذه الفضاءات في استقبال زوارها من كل الأعمار، الباحثين عن الهواء النقي والاسترخاء بعيدا عن ضغط وقلق أشهر الحجر الصحي.

وتشكل الحدائق التاريخية لمراكش جزءا من المشهد البيئي للمدينة وتحظى باهتمام خاص في مجال الحماية والتثمين، لاسيما أمام الآثار السلبية للمعدلات المتزايدة للتمدن التي تعرفها مراكش، مع بروز أحياء سكنية جديدة وانفجار ديمغرافي متسارع. وتتميز هذه الحدائق، على غرار حدائق أكدال وعرصة مولاي عبد السلام وجنان الحارثي وحدائق المنارة، بكونها كلها مسيجة باستثناء بعض الحدائق كعرصة “البيلك” المتواجدة قرب الساحة التاريخية لجامع الفنا، ما يمكن من صون هذه الفضاءات وحمايتها، وذلك عبر إرساء أوقات للافتتاح والإغلاق ومراقبة على مدار اليوم، وأشغال صيانة وتهيئة شبه متواصلة للمحافظة على أصالة وبهاء هذه الفضاءات.

ويحرص المراكشيون على زيارة هذه الفضاءات البيئية، بشكل يومي، خاصة عشاق المساحات الخضراء، وفق تقليد محلي يطلق عليه اسم “النزاهة” (نزهات جماعية) التي تنظم عادة بين الأسر والأصدقاء والأقارب والحرفيين. ويشكل هذا الاهتمام بالمناطق الخضراء بمراكش وتهيئتها على مقربة من الأحياء السكنية والشوارع الرئيسية، أولوية قصوى في إطار مختلف جهود التأهيل الحضري المبذول خلال السنوات الأخيرة من قبيل السلطات العمومية والهيئات المنتخبة.

كما تشكل هذه الحدائق، بأهميتها التاريخية والإيكولوجية وأزهارها العطرة ومن منطلق الواجب الأخلاقي لحمايتها، مصدر إلهام لعدد من الفنانين والكتاب وأصحاب الموضة، على امتداد السنوات، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. ويمكن الإشارة في هذا الصدد، إلى مجموعة من الشخصيات التي استهوتها حدائق مراكش الخضراء من قبيل الكاتب البريطاني أوزبرت سيتويل، والرسام الفرنسي هنري ماتيس ودولاكروا، وإيف سان لوران، والمجموعة الغنائية “البيتلز” وغيرهم من الشخصيات التي زارت المدينة الحمراء واستلهمت روحها وجمال حدائقها.

ومن أبرز فضاءات مراكش الخضراء، هناك حدائق “أكدال” (بالأمازيغية المرعى المحروس) التي يعود تاريخها إلى القرن 12 ممتدة على مساحة 400 هكتار. ويتعلق الأمر بفضاء أخضر بأشجار مثمرة، وواحة خضراء تسر الناظرين ومنبعا للأوكسجين الخالص. كما تعتبر حدائق المنارة واحدة من الأماكن التي تحظى بصيت ملحوظ، حيث شيدت حول خزان ماء كبير وزينت بأشجار الزيتون. ويمكن هذا الفضاء الزوار من الاستمتاع بالأجواء اللطيفة والممتعة لمدينة مراكش، لاسيما خلال فصل الربيع، وفي الخلف منظر جميل لجبال الأطلس الشاهقة.

ومن بين الأخرى الساحرة تلك الحدائق التابعة لقصر المامونية الفاخر، والتي تأخذ مرتاديها من الزبناء في سفر وجداني إلى واحة بقلب مراكش، على مقربة من حدائق بديعة أخرى، ويتعلق الأمر بحدائق الكتبية بورودها وأشجار البرتقال التي تزينها. ويستطيع زوار المدينة الحمراء أيضا اكتشاف الحديقة السرية لمراكش بحي المواسين بالمدينة القديمة، وهو إبداع للسلطان السعدي مولاي عبد الله.

وتتكون الحديقة السرية، التي تمتد على مساحة 4 آلاف متر مربع، من برج يبلغ طوله 17 مترا وحديقتين، واحدة ذات هندسة إسلامية والأخرى بطابع استوائي، إذ تحتوي على نباتات تم جلبها من القارات الخمس.

ومن غير الممكن للشخص التوجه إلى مدينة مراكش دون أخذ الوقت الكافي لإيقاظ حواسه وعيش الفرحة والرغبة الكبيرة في التحليق، من خلال إجراء زيارة فريدة بقلب مجموعة من الحدائق النباتية، التي تتمتع كل واحدة منها بروح وجو خاص.

فمن بين الحدائق النباتية الأكثر شهرة، حديقة ماجوريل التي أحدثها الرسام جاك ماجوريل الذي وقع في حب المدينة الحمراء. وتحتوي هذه الحديقة ذات الألوان السحرية على أصناف مختلفة من النباتات تم جلبها من جميع بقاع العالم. ويتعلق الأمر أيضا بحديقة أنيما الممتدة على مساحة تفوق هكتارين بالقرب من مدينة مراكش، التي تتميز بإطلالة جميلة على سلسلة جبال الأطلس الشامخة، بالإضافة إلى جنان تامسنا الذي يملكه المتخصص في علم النباتات العرقي غاري مارتن بمنطقة النخيل، والذي يعطي الانطباع للزائر بالتواجد داخل واحة في الصحراء.

وتحتوي مراكش أيضا على متحف النخيل المفتوح منذ 2011 بعدما خضع لعمليات تطوير طيلة عشر سنوات.

وذكر عالم النباتات عبد الرزاق بنشعبان، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن مراكش ومنذ تأسيسها من طرف الدولة المرابطية، تزودت قبل التوسع الحضري بجنان الصالحة، وهي حديقة تم زرعها بأشجار الزيتون لتغذية سكان المدينة وجيشها، مشيرا إلى أن هذه الحديقة التي لم يبقى لها أثر في الوقت الحالي، يحل محلها اليوم قصر البديع الذي يرجع بناؤه للسعديين والمشور وبنايات أخرى ملحقة.

وأوضح السيد بنشعبان، صاحب مؤلف “مراكش المدينة-الحديقة”، وهو عمل من 228 صفحة صدر سنة 2014 ضمن منشورات “بركان”، أنه “انطلاقا من القرن الثاني عشر وتحديدا تحت حكم الموحدين، تزودت مدينة مراكش بمنتزهات حقيقية على غرار حدائق أكدال أو المنارة، ذات طابع فلاحي وترفيهي”.

وأضاف أن”كل سلالة حاكمة تركت بصمتها على حدائق المدينة الحمراء، التي استفادت من سياسة بيئية حقيقية خلال كل هذه الحقب” مشيرا في هذا الصدد إلى حدائق البديع، وعرصة الريصاني، وعرصة مولاي عبد السلام، والباهية، ودار السي سعيد التي تعكس الأهمية التي كان يوليها السلاطين والأمراء، والوزراء، والأعيان لإنشاء حدائق بالمدينة الحمراء. وأبرز السيد بنشعبان أيضا أن ساكنة المدينة، التي تتواجد بين الأسوار، كانت تحافظ على تقليد زرع حدائق داخلية، من أجل تلبية الاحتياجات من الفواكه والخضر للسكان، لافتا إلى أن حدائق القرب هذه التي اختفت اليوم، لا تزال راسخة في ذاكرة المراكشيين بالأسماء التي كانت تحملها مثل “عرصة الحوتة”، و”عرصة الملاك”، و”عرصة بوعشرين”، و”جنان بنشكرة”.

وفي القرن العشرين، يضيف المتخصص، عملت الحماية الفرنسية، بإيعاز من الماريشال ليوطي، على تدشين نموذج جديد من الحدائق، مع الحفاظ على الحدائق القديمة، مبرزا أن الحدائق الجديدة أحدثت بأسلوب غربي للمنتزهات الأوروبية ك”جنان الحارثي”، و”الحي الشتوي”، و”عرصة البيلك”.

وأضاف أن هذه الحدائق الجديدة وتهيئة المساحات الخضراء، ساهمت في تعزيز الموروث الإيكولوجي للمدينة الحمراء، معتبرا أن الحديث عن حدائق مراكش يجر إلى الحديث عن عشرة قرون من تاريخها الحافل بالإشعاع والإثارة.

وبالرغم من الزحف العمراني وبروز مجموعة من الأحياء السكنية على حساب المساحات الخضراء، فإن مراكش وبفضل حدائقها الكثيفة ومساحاتها الخضراء الشاسعة تواصل “المقاومة” و”الصمود” للحفاظ على طابعها كمدينة -حديقة.

المصدر: الداروم ع

زر الذهاب إلى الأعلى