الدين والحياةسلايدر

إسلاميات… فوارق في تعامل ملوك المغرب والرئيس التركي مع مسلمي فرنسا

بقلم ✍️ منتصر حمادة

في الفصل الأخير من كتابه “الانكسار” [2016]، وجاء تحت عنوان “الجهادية والإسلاموفوبيا: الاحتيال المزدوج”، خصّص جيل كيبل محوراً بعنوان “تدخل ملك المغرب”، مع الإشارة هنا إلى أن الكتاب لا علاقة له بموضوع هيكلة الحقل الديني بالمغرب أو بالمنطقة العربية، وإنما يشتغل على المسألة الإسلامية في فرنسا خلال العقدين الأخيرين على الخصوص، مع وقفات أكثر عند المعضلة الجهادية، وبدرجة أقل المعضلة الإخوانية، وهي قضايا كانت غائبة في التناول البحثي منذ عقود، لأنها كانت في أولى محطات الانتشار، للأسباب مركبة، بعضها مرتبط بأداء الدولة الفرنسية، وخاصة الحكومات المتعاقبة، وبعضها مرتبط بأداء هذه المشاريع الإسلاموية من جهة، وأداء بعض دول المنطقة المتحالفة معها من جهة ثانية، ضمن أسباب أخرى.

تطرق كيبل لمضامين الخطاب الملكي الخاص بثورة الملك والشعب، والمؤرخ في 20 غشت 2016، والذي تضمن وقفات مع الجالية المغربية المقيمة بالخارج، مستحضراً السياق الزمني، لأن الخطاب الملكي جاء بعد أشهر أو أسابيع من بعض الاعتداءات التي مرت منها بعض دول المنطقة [اعتداءات 13 نوفمبر 2015 بباريس، واعتداءات 22 مارس 2016 ببروكسيل]، إضافة إلى أن القبض على المدعو عبد الحميد أباعود في 18 نوفمبر 2015 بضواحي باريس، كان نتيجة التنسيق الأمني بين المغرب وفرنسا.

توقف المؤلف عند التنديد الملكي الصريح بالتطرف الإسلامي، مستشهداً بفقرة من الخطاب في هذا الصدد، جاء فيها: “إن الإرهابيين باسم الإسلام ليسوا مسلمين، ولا يربطهم بالإسلام إلا الدوافع التي يركبون عليها لتبرير جرائمهم وحماقاتهم. فهم قوم ضالون، مصيرهم جهنم خالدين فيها أبداً. وهل من المعقول أن يأمر الله، الغفور الرحيم، شخصا بتفجير نفسه، أو بقتل الأبرياء ؟ علما أن الإسلام لا يجيز أي نوع من الانتحار مهما كانت أسبابه. قال سبحانه : [من قتل نفسا بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا]. إن الإسلام دين السلام، يقول تعالى : [يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة]، والجهاد في الإسلام يخضع لشروط دقيقة من بينها أنه لا يكون إلا لضرورة دفاعية، ولا يمكن أن يكون من أجل القتل والعدوان، ومن المحرمات قتل النفوس بدعوى الجهاد. ومن شروط صحة الجهاد أيضاً، أن الدعوة إليه هي من اختصاص إمارة المؤمنين. ولا يمكن أن تصدر عن أي فرد أو جماعة. كما يستغلون بعض الشباب المسلم، خاصة في أوروبا، وجهلهم باللغة العربية وبالإسلام الصحيح لتمرير رسائلهم الخاطئة ووعودهم الضالة”.

“إن الإرهابيين باسم الإسلام ليسوا مسلمين، ولا يربطهم بالإسلام إلا الدوافع التي يركبون عليها لتبرير جرائمهم وحماقاتهم…”

كما أضاف كيبل أن “الإسلام لا يُشرع الانتحار”، وأن “تدخل الملك في الخطاب، باعتبار أمير المؤمنين، جاء للتذكير بأن إعلان الجهاد ليس بين أيدي كل من هب ودب، وإنما في الحالة المغربية، بمقتضى مهام المؤسسة، يوجد بين أيدي أمير المؤمنين حصراً”، معتبراً أنه بمقتضى هذا الخطاب، “يتموقف المغرب باعتباره فاعلاً مركزياً في الحرب ضد الإرهاب الجهادي” [ص 227]، بمعنى آخر، لا يتوقف “الملك عن اللجوء إلى الآليات السياسية والأمنية للمملكة، من أجل مواجهة الظاهرة، وإنما يُحيل حتى على كاريزما ودور مؤسسة إمارة المؤمنين، ضد أدعياء الخلافة في الموصل [يقصد المدعو أبو بكر البغدادي ومن معه]، ومن هنا تكمن أهمية هذا الخطاب بالنسبة لمسلمي الخارج [ومنهم الجالية المغربية المقيمة بالخارج]، لأنه خطاب يُجرم هذه الجماعات الجهادية، خاصة أنه بالنسبة لهذه الفئة من الجالية المسلمة، الخطاب صادر عن مؤسسة دينية تحظى بمصداقية، بما يساهم في تفادي انزلاق نسبة من مسلمي أوربا نحو الصدام الإثني والديني لدى الجيل الثالث من الجهاديين”. [يقصد كيبل المؤلف بـ”الثورة الثقافية للجيل الثالث من الجهاديين”، ظاهرة جديدة ذات صلة بالعمل “الجهادي”، ومما يُميزها مثلاً توظيف أبناء المنطقة المعنية بالاعتداء في تنفيذ هذه الاعتداءات، وهذا ما عايناه في عدة حالات أوربية خلال السنين الأخيرة، من قبلي حالة الشاب محمد مراح في مدينة تولوز الفرنسية. من مميزات الظاهرة كذلك، أنه بخلاف السائد سلفاً مع تنظيم “القاعدة”، الخاضع لتراتبية هرمية يقودها أسامة بن لادن، نحن اليوم أمام منظومة تترك “للجهادي” في المنطقة المستهدفة، حرية المبادرة، حسب الظروف المتاحة والإمكانات المتوفرة؛ كما أن هذا الجيل الجديد من “الجهادية”، يستهدف أكثر دول القارة الأوربية، بخلاف جيل تنظيم “القاعدة” الذي صبّ اهتمامه الأكبر على أمريكا،” (ص 56)]

كان الخطاب الملكي في هذا الظرف الأوربي وخاصة الظرف الفرنسي، مناسبة أمام المؤلف للتذكير بتدخل ملكي سابق، صادر هذه المرة عن الملك الحسن الثاني، على هامش مشاركته في برنامج “ساعة الحقيقة” بتاريخ 17 ديسمبر 1989، في عز الجدل الفرنسي حينها بخصوص “قضية الحجاب” التي جرت في مدينة كراي، خاصة أن القضية همت ثلاث تلميذات، رفضن نزع الحجاب قبل ولوج المدرسة، وتنحدرن من أسر مغربية (بالنسبة لحالتين)، حيث اعتبر الملك الحسن الثاني أنه تدخل في الموضوع من أجل المساهمة في التخفيف من التوتر المجتمعي والسياسي الذي صاحب القضية، ليخلص جيل كيبل أن معاينة وساطة مؤسسة دينية وسياسية، في تدبير قضية مشابهة لقضية أمس، ولكنها أضخم بكثير، بعد عقدين من “قضية الحجاب”، مؤشر دال على غياب أي مؤسسة فرنسية ذات مصداقية دينية من أجل التصدي للمعضلة الداعشية”. [ص 229]

تكمن أهمية هذه الوقفات لجيل كيبل في كتابه هذا، في سياق استحضار دور بعض دول المنطقة، مغاربية ومشرقية، في التعامل مع المسألة الإسلامية في فرنسا، حيث تتعدد الخيارات والقرارات، ولكن في معرض مقارنة هذه المواقف المغربية، والصادرة عن أعلى سلطة سياسية ودينية في آن، مع ما يصدر عن الأتراك مثلاً، نعاين بعض هذه الفوارق، ولن تكون آخرها، تعامل دول المنطقة مع تبعات خطاب الرئيس الفرنسية إيمانويل ماكرون عن “الانفصالية الإسلاموية”، كما جاء في خطاب 2 أكتوبر 2020، حيث دخل الرئيس التركي على الخط، ليُعاين المتتبعون في المنطقة، تورط الجميع، الأتراك والفرنسيين في تصريحات نقدية وما يُشبه تصفية حسابات، بما ساهم في تعقيد المشهد عوض تهدئته، خاصة أنه يهم مسألة حساسة مرتبطة بالمحدد الديني، إلى درجة أن رجب طيب أردوغان لم يقتصر على التنديد بسياسات نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون حيال المسلمين، بل خاطبه قائلاً إن عليه “فحص صحته العقلية”، وقد سبق هذا النقد التركي، نقد مضاد للرئيس الفرنسي، عندما اتهم نظيره التركي معتبراً أنه “يجب توضيح الأمر مع تركيا، لأن المشروع التركي كما هو قائم اليوم، مشروع سياسي وديني”، في سياق سياسي يتميز بما يُشبه “تعويض أوردوغان لمكانة طارق رمضان، خاصة أن الرئيس التركي يزعم أنه يواجه القمع الذي يتعرض له المسلمون، ويتصدي للإسلاموفوبيا، عبر التقرب من التجمع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا” [مجلة “الإكسبرس” الفرنسية، عدد 25 يونيو 2019].

تكمن أهمية هذه الوقفات لجيل كيبل في كتابه هذا، في سياق استحضار دور بعض دول المنطقة، مغاربية ومشرقية، في التعامل مع المسألة الإسلامية في فرنسا.

يحدث ذلك رغم أن الجالية التركية في فرنسا تبقى أقلية مقارنة مع الجاليات المغاربية والإفريقية، وهذا أمر معلوم عند متتبعي المشهد الإسلامي هناك، وسبق لعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل طود، أن ألف كتاباً تفاعلاً مع تداعيات اعتداءات شارلي إيبدو المؤرخة في 7 يناير 2015، بعنوان “من هو شارلى: سوسيولوجيا أزمة دينية” [2015]، توقف فيه عند “سرعة اندماج الجاليات القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء في الساحة الفرنسية مقارنة مع الجالية التركية، متحدثاً عما اصطلح عليه بـ”المشكل التركي”، والذي “كان في الأصل مشكلاً تركياً في ألمانيا، وخاصة بسبب المقاومة التي تعاني منها مؤشرات اندماج الجالية التركية، قبل أن يخلص إلى أن “أتراك فرنسا هم جزء من أتراك ألمانيا”. [ص 228]

ما أسهل إثارة الفتن في المنطقة ومعها الساحة الأوربية، كلما تعلق الأمر بالخوض في المسألة الإسلامية، وزاد الوضع تعقيداً دخول حركات وجماعات إسلامية في الملف، ودخول بعض الدول التي توظف هذه المشاريع في أحداث الساحة، كما عاينا ذلك على سبيل المثال في أحداث “الفوضى الخلاقة” [2011 ـ 2013]، أو مشاركة إسلاميي المنطقة في مؤتمر كوالالمبور بماليزيا في 19 ديسمبر 2019، ضمن أمثلة أخرى.

وما نعاينه في الساحة الفرنسية، لا يخرج عن هذا المضمار، حيث صعدت أسهم الإسلاموية خلال العقدين الأخيرين، موازاة مع إصرار بعض دول المنطقة على توظيف هذا المعطى في صراعات سياسية واقتصادية واستراتيجية وغيرها، ولكن شتان ما بين مقاصد دخول المغرب في النموذجين سالفي الذكر، مع حوار الملك الحسن الثاني (17 ديسمبر 1989) وخطاب الملك محمد السادس (20 غشت 2016)، وبين مقاصد التفاعلات التركية الرسمية للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، رغم تواضع الحضور التركي مقارنة مع الحضور المغربي والمغاربي.

زر الذهاب إلى الأعلى