أخبار الدارسلايدر

افتتاحية الدار: في ذكرى الثورة.. الملك يرسم قواعد التعامل الجديدة مع أوربا

الدار/ افتتاحية

يأتي الخطاب الملكي لذكرى ثورة الملك والشعب ليتوج تحولا دبلوماسيا واستراتيجيا ملموسا في الشهور الأخيرة. في بداية شهر مارس الماضي أعلن المغرب تجميد علاقاته بالسفارة الألمانية بالرباط، كما عرفت الفترة نفسها احتجاجا مغربيا رسميا على استقبال مدريد لزعيم انفصاليي البوليساريو إبراهيم غالي، تلاه أزمة في العلاقات بين المغرب وإسبانيا، انتهت بإقالة وزيرة الخارجية الإسبانية. وفي السياق ذاته واجه المغرب اتهامات مؤامرة التجسس المعروفة بملف “بيغاسوس” ببيانات صارمة واتخذ إجراءات قضائية ضد مجموعة من الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية والألمانية. إنها ثلاث جبهات مفتوحة مع ثلاث دول كبرى في الاتحاد الأوربي هي ألمانيا وإسبانيا وفرنسا.

وعلى الرغم من تأكيده على العلاقات المغربية الفرنسية تظل متميزة ونموذجية في المنطقة، إلا أن الخطاب الملكي الذي تحدث بصيغة الجمع عن بعض “الدول” الأوربية، قد لا يكون استثنى باريس من دائرة الدول التي وجه لها الانتقادات على تدخلها في الشأن المغربي، بصفة رسمية أو غير ذلك. ومع تأكيده على علاقات متميزة وتنسيق دائم مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فلعل قول الملك محمد السادس في إحدى فقرات الخطاب أن هذه الدول “تعرف ضعفا كبيرا، في احترام مؤسسات الدولة، ومهامها التقليدية الأساسية” يشير إلى الوضع في فرنسا، التي شهدت في الشهور الأخيرة حالة من عدم الاستقرار بسبب تعثر الحكومة الفرنسية في تدبير جائحة كورونا، وموجة الاحتجاجات التي واكبتها من طرف المواطنين الفرنسيين، بشكل أثر على ثقتهم في مؤسسات وقرارات حكومتهم.

لكن الرسالة الأوضح في الخطاب الملكي كان المستهدف بها هو ألمانيا. حديث الملك عن التقارير “التي تجاوزت كل الحدود” إشارة صريحة إلى ما أصدرته بعض مراكز البحث الألمانية، ومن بينها المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، الذي أوصى في أحد تقاريره بضرورة تقليص الدعم المقدم للمغرب في المجال التنموي والاقتصادي، حتى لا يتفوق على باقي بلدان المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر. هذا إضافة إلى تقارير الشفافية والنزاهة الصادرة من برلين والتي تبخس كل الجهود المغربية المبذولة في مجال تطوير الحكامة الرشيدة وتميل باستمرار إلى ترتيب المغرب في مراتب متدنية، للتأثير على سمعته.

لم يكن قرار تجميد التعامل مع السفارة الألمانية إذن مجرد خطوة مؤقتة ومرحلية في مارس الماضي. اليوم يتأكد بالملموس ومن خلال هذا الحيز المهم الذي خصصه الخطاب الملكي للعلاقات الخارجية، وخصوصا مع الجيران الأوربيين، أن هناك مرحلة جديدة يتم التأسيس لها في هذه العلاقات. “فقواعد التعامل تغيرت، ودولنا قادرة على تدبير أمورها، واستثمار مواردها وطاقاتها، لصالح شعوبنا”، حسب ما أكده الملك محمد السادس في خطابه. لن تعود العلاقات مع ألمانيا ومع غيرها وفقا للمعايير ذاتها التي اعتاد الأوربيون من خلالها فرض إملاءاتهم وشروطهم، خصوصا أن لديهم مصالح في المنطقة يجب أن ينتبهوا قليلا للحفاظ عليها.

وإذا كان منطق المواجهة والتحدي يبرز بجلاء من ثنايا الخطاب الملكي في مواجهة القوى الأوربية الراغبة في استمرار عقلية الماضي الاستعمارية، فإن من أهم الرسائل المستنتجة من هذا الخطاب حرص الملك محمد السادس على الحديث عن المغرب بصفته المغاربية. لم يكن الملك وهو يتحدث عن التدخلات الأوربية يدافع عن المغرب وحده، بل كان يتحدث عن دول المنطقة المغاربية وكأنها كتلة واحدة، لقد كان واضحا إيمان الملك محمد السادس القوي بالمشروع المغاربي، وهو يتحدث عن تلك القوى الأجنبية وعن قياداتها الذين “لم يستوعبوا بأن المشكل ليس في أنظمة بلدان المغرب الكبير، وإنما في أنظمتهم، التي تعيش على الماضي، ولا تستطيع أن تساير التطورات”. لقد كان هذا الدفاع عن الحلم المغاربي منسجما مع مضامين خطاب العرش الأخير الذي وجه فيه الملك محمد السادس رسالة صريحة إلى الجارة الجزائر من أجل تجاوز جروح الماضي والالتفات إلى المستقبل واستكمال بناء اتحاد المغرب العربي.

من المؤكد إذن أن الخطاب الملكي لذكرى ثورة الملك والشعب خطاب تاريخي بكل المقاييس. فهو خطاب للتحدي ومواجهة كل المؤامرات التي يحبكها الجيران الأوربيون ضد استقرار المغرب ووحدته، مثلما هو الحال بالنسبة لألمانيا، وخطاب للوئام والتعاون مع كل من يريد أن يحترم المغرب وسيادته. وبقدر ما لم يتأخر الملك في توجيه الانتقاد الضروري للسياسة الألمانية تجاه المغرب، بقدر ما كانت لديه الشجاعة الأدبية الكافية كي يفتح كوة أمل في مستقبل العلاقات المغربية الإسبانية. هذا الخطاب يضع القوى الأوربية اليوم إذن بين اختيارين: المواجهة أو الاستقرار.

زر الذهاب إلى الأعلى