الدين والحياةسلايدر

حمو النقاري ومغامرة الكشف عن الوجه المنطقي في أعمال ابن تيمية

منتصر حمادة

سبقت الإشارة في مقال سابق على موقع “الدار” بعنوان “منطق حمو النقاري في تحرير ابن تميمة من الاختزال” ومؤرخ في 20 أبريل، 2021، إلى أن كتابه الصدر حينها، وعنوانه “ابن تيمية “المنطقي” أو منطق “الرد على المنطقيين””، يندرج في ما يمكن الاصطلاح عليه بـ”تحرير ابن تيمية من الاختطاف” الذي تعرضت له أعمال ابن تيمية خلال العقود الأخيرة، من طرف بعض أدبيات تيار “الصحوة الإسلامية”ن وخاصة من طرف السلفية الوهابية، بما فيها بعض الحركات الإسلامية التي كانت تنهل من المرجعية السلفية نفسها، (النموذج هنا في المغرب، مع حركة “التوحيد والإصلاح” الإخوانية، التي كانت نواتها المؤسسة، متأثرة بالأدبيات السلفية الوهابية، ويمكن تأمل مضامين الأعمال البحثية الصادرة عن أتباع الحركة، بما في ذلك الأتباع السابقين، وتعاملهم مع متن ابن تيمية، من أجل التأكد من هذا المعطى، وخاصة الأسماء التي تنشر في مراكز “أسلمة المعرفة”، المغربية والعربية).


وتمت الإشارة أيضاً إلى أن قلة قليلة من الباحثين في المغرب والمنطقة، مؤهلة لعملية تحرير ابن تيمية من هذا الاختطاف، من قبيل التونسي أبو يعرب المرزوقي، بصرف النظر عن مواقفه السياسية المتقاطعة مع الخطاب الإسلامي، والمغربي طه عبد الرحمن، الذي استفاد من أعمال حمو النقاري حول المنطق، مع العمل بالملاحظة نفسها بخصوص التعامل مع المرزوقي، أي صرف النظر عن مواقفه السياسية التي تتقاطع مع المواقف الإسلامية الحركية، كماء جاءت في كتابه “ثغور المرابطة”، والمصري هاني نسيره الذي ألف كتاباً يصب في هذا الاتجاه بعنوان “متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية”، وأسماء أخرى.
تأسيساً على ما سبق، يأتي الإصدار الجديد الذي خرج من المطبعة منذ أيام، للنقاري مرة أخرى، وعنوانه “فلسفة ابن تيمية المنطقة”. (جاء العمل في 204 صفحة، وصدر عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط 1، أكتوبر 2021).
جاء العمل موزعاً على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، والملاحظ أن مضامين مقدمة الكتاب تؤكد بشكل أو بآخر ما أشرنا إليه أعلاه، من أن العمل يندرج كحلقة متممة للكتاب السابق الصادر عن المؤسسة نفسها، والذي اقتصر فيه النقاري على محاولة تحرير وتخليص “المادة المنطقية التيمية” الواردة في كتاب “الرد على المنطقيين” مما اتصل بها، فيه، من مواد عقدية وفقهية وسلوكية، قد تبدو بعيدة عن “الهم المنطقي”، وإعادة ترتيبها وتبويبها بكيفية أردنا لها أن تكون معبرة قدر الإمكان عن خصوصية تعامل ابن تيمية، النظري والتناظري، مع المنطق الذي كان متداولاً في عصره.
بخصوص مضامين فصول العمل، فقد كان الأول، وعنوانه “المنطق وفلسفته” مخصصاً لبيان الطابع الدينامي والمتطور للنظريات المنطقية التي اهتمت بتقنين المناهج المنطقية المرعية، أو التي ينبغي مراعاتها، في مختلف المجالات النظرية والتناظرية من جهة وبيان الطابع الواسع والمنفتح لما يصلح، من الإشكالات التي من شأن النظر في المناهج المنطقية طَرْحُهَا، لأن يكون مُتَعَلَّقَ تفلسف منطقي خاص من جهة أخرى. وكان غرض النقاري من هذا الفصل التنبيه إلى أمرين أساسيين: التنبيه إلى القصور أو الخصاص المنهجي لأغلب الأبحاث التي اهتمت بالجانب المنطقي في تفكير ابن تيمية، إذ تَصَوُّرها لعلم المنطق كان تصوراً ضيقاً جداً، فالمنطق عندها هو المنطق الأرسطي أساساً؛ التنبيه، بالاستناد إلى واقع تعدد النظريات المنطقية الفعلي، إلى إثبات المشروعية النظرية لجواز تعدد وجوه التفلسف المنطقي الذي كان تفلسف ابن تيمية المنطقي إحداها.
أما الفصل الثاني، المعنون بـ”المقروء المنطقي التيمي”، فقد كان مخصصاً لتقريب أهم العناصر التي كَوَّنَت المتن المنطقي العربي المتداول حتى عصر ابن تيمية، وهو متن جسدَته مصنفات منطقية متفاضلة من حيث قيمتها العلمية من جهة ومن حيث مقاصدها العملية من جهة أخرى، وقد اختار النقاري ضمن هذه العناصر أو النماذج، ثلاثة كشواهد لهذه المصنفات المنطقية هي: “الرسالة الشمسية” للقزويني و”المعتبر في الحكمة الإلهية” لابن ملكا وأعمال الفارابي المنطقية:
ــ فبالنسبة لـ”الرسالة الشمسية” اخترناها لأنها كانت، في عصر ابن تيمية، النموذج الأوحد للمادة المنطقية المعتمدة في البرامج التعليمية الإسلامية كنظام تدريسي أساس في “تعليم المنطق”، اعتماداً أدى في النهاية، بالبعض، إلى نظم هذه المادة المنطقية شعراً وكأنها هي “المنطق” ولا منطق سواها، شعراً لتيسير الجمود عليها وحفظها.
ــ والنسبة لابن ملكا اخترنا جزء كتابه “المعتبر” المخصص لـ”المنطق” لأنه يُمَثِّل، من وجهة نظر المؤلف، “أول محاولة منطقية”، في الحقل الثقافي الإسلامي ــ العربي، لإثبات “نسبية القول المنطقي الأرسطي” و”تجويز الاستغناء عنه”، وهي المحاولة التي استأنفها ابن تيمية بمزيد فحصٍ وانتقادٍ وتحليلٍ.
ــ وأخيراً، بالنسبة لأبي نصر الفارابي اختار النقاري أعماله المنطقية لأنه كان بحق “المعلم الثاني” لصناعة المنطق بعد “المعلم الأول” أرسطو، ولأن هذه الأعمال كانت، من جهة، المصدر العربي الأساس الذي نهلت منه كل المصنفات المنطقية العربية اللاحقة بوجوه نَهْلٍ انتقائية ومتباينة، وكانت، من جهة أخرى، مرجعاً لابن تيمية الذي وافق قدراً غير يسير من التقريرات المنطقية المثبتة فيها.
بخصوص مضامين الفصل الثالث والأخير المعنون بـ”التفلسف المنطقي التيمي”، فقد كان الغرض منه تجاوز الاهتمام بـ”الانتقادات التي وجهها ابن تيمية للمنطق الأرسطي” إلى الاهتمام بإبراز “البدائل المنطقية التي قرّرها ابن تيمية”؛ وهي بدائل تُكَوِّن، مجتمعة، “وجهاً تفلسفياً متميزاً في المعرفة المشروعة والمنطق المشروع نظرياً وتناظرياً”، وجهاً تفلسفياً نجد فيه “بوادر جزئية ومُجْمَلَة” اشتهرت بها نزعات فلسفية غربية معاصرة.
نأتي لخاتمة الكتاب، فقد خلُص المؤلف إلى أن “الأحكام البديلة” التي قَرَّرَها ابن تيمية في استشكاله للمسائل المنطقية الخمسة السابقة، وهي الأحكام التي يرى أنها تمثل روح “تفلسفه المنطقي”، تشهد لتوجه فلسفي متميز من جهات ستة؛ فهو توجه:
ــ ذو”نزعة نفعية”، فالواجب في نهج الطرق الموصلة إلى العلم أن تكون طرقاً موصلة إلى “ما يُنْتَفَعُ به”: إن في “سعادة الأنفس وكمالها”؛ أو في “تحقيق الإدراك العقلي لأحوال الموجودات الطبيعية”.
ــ يُقرّ بدور “الفطرة” في تحصيل العلم، لأن “الفطرة” تتضمن “أسباب الإدراك السليمة”. ويعود الإقرار بوجود طريق فطري في تحصيل العلم إلى الإقرار بوجوب: استثمار “أسباب الإدراك السليمة” التي يتمثل أَوَّلُها في ما يُسَمَّى “أوليات”، فُطِرَ عليها الإنسان وأودعت في عقله من قِبَل خالقه. ويُعَدُّ هذا الاستثمار أول الركائز التي تُكْتَسَب المعارف والعلوم بالاستناد إليه والاعتداد به والاحتكام إليه؛ تجنب “أسباب الإدراك الفاسدة” باعتبارها “مفاسد للفطرة” والتي تتمثل، بصفة عامة، في “القضاء في الأمور بسبب التعود أو التقليد أو الظن أو الشبهة أو الهوى أو المصلحة الخاصة” أو غيرها من “المفاسد العلمية والعملية”.
ــ يُرجع مفهوم “النظر” إلى مفهوم “طلب إدراك العلاقات اللزومية والتلازمية بين الموجودات بغرض الانتهاء إلى القضاء فيها قضاءً كلياً”. إن لـ”الموجودات”، باعتبارها “وقائع العالم الجزئية”، إما “وضع أدلة تستلزم مداليل” وإما “وضع مداليل استلزمتها أدلة” وإما “وضع آيات تتلازم مع ما تُبَيِّنُه”. ولـ”القضاء الكلي” الذي يحصل بـ”النظر” أوضاع ثلاثة: “وضع معرفي” و”وضع لساني” و”وضع أنطولوجي”.
ــ ذو “نزعة مادية ولا صورية” تُهَوِّن من شأن التوجه الصوري في النظر وتعلي من شأن “الاعتبار بمحتويات النظر وبلوازم وملزومات هذه المحتويات”. وبهذا الاعتبار يكون “الطريق الأمثل” في “معرفة التماثل والاختلاف بين الأشياء” وفي تصوير هذه المعرفة في صورة “أحكام كلية”، قطعية أو غير قطعية، “طَرِيق التمثيل بين هذه الأشياء في الأوصاف المؤثرة وغير المؤثرة”، وذلك بإبداء الجوامع بين هذه الأشياء أو إلغاء أو إبداء الفوارق بينها.
ــ يُبرز “الطابع المنطقي لعلم أصول الفقه” لأن “علم أصول الفقه”، في كنهه، بيان لضوابط معرفة التماثل والاختلاف بين الأفعال في الحكم الشرعي.
ــ وأخيراً، يُرجع “المعرفة النظرية” إلى “معرفة التماثل والاختلاف بين الأشياء” في أفق إما “التسوية بين المتماثلين” وإما “التفريق بين المختلفين”.
هي مغامرة علمية حقيقية انخرط فيها حمو النقاري في معرض رد الاعتبار للوجه الآخر لمن لقبه النقاد لاحقاً بـ”شيخ الإسلام”، ضمن ألقاب أخرى، أي ابن تيمية، والذي تعرضت أدبياته للاختزال والتوظيف والتشويه، بما يقتضي المساهمة في رد الاعتبار لأعمال الرجل، وهذا أمر في مقدور حمو النقاري وأمثاله، على قلتهم، خاصة أنه متمكن من علم المنطق، بل إنه أحد رموز هذا العلم في المغرب والمنطقة العربية، وليس صدفة هذا الانفتاح المحلي والعربي والإسلامي على أعماله، بما في ذلك انفتاح الباحثين الخليجين على أعماله، وقد سبق له الاشتغال على أعمال ابن تيمية، ونخص بالذكر هنا كتابه الذي يحمل عنوان “المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية”، حيث اشتغل النقاري في هذا العمل عند موضوع توظيف المنطق اليوناني عامة، والأرسطي خاصة، في تقنين البحث الفقهي ــ الذي يُصطلح عليه عند العلماء المسلمين بعلم “أصول الفقه” ــ من خلال موقفين متعارضين منه: موقف أبي حامد الغزالي، وموقف تقي الدين بن تيمية. (صدر الكتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2013. 304 صفحة، من الحجم المتوسط، ووجب التذكير بأنه صدرت نسخة من العمل ذاته عن دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ومؤرخة في 2010).

زر الذهاب إلى الأعلى