السودان…بلد مثقل بجراح انقلابات عسكرية غدتها بيئات حزبية وثقافية أضعفت الأنظمة المدنيّة
الدار- خاص
لا يختلف اثنان أن المشهد السوداني الراهن، المتسم باستمرار الاشتباكات والمعارك بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، مشهد يغلب عليه الصراع العسكري بالدرجة الأولى، غير أن مسار الانقلابات التي عاش على ايقاعها هذا البلد يؤكد أن هناك أطراف وشركاء آخرين كان لهم اليد الطولى فيما آل اليه الوضع في البلد، والتي كانت غالبا أطراف بخلفيات سياسية وايديولوجية وحزبية وثقافية وفرت للانقلابات العسكرية البيئة المناسبة للنمو، و الاستمرار، ولو على حساب مآسي الشعب السوداني، الذي لا يخرج من انقلاب عسكري، الا ويدخل في آخر، كما لو أن القدر المحتوم قدر على هذا الشعب الشقيق أن يعيش على إيقاع اللاستقرار السياسي.
لفهم طبيعة تأثير الأيديولوجيات الحزبية والثقافية والفكرية على الانقلابات العسكرية، وكيف وفرت لها البيئة المناسبة للنمو، لنعد قليلا الى الوراء، وبالضبط الى انقلاب ابراهيم عبّود، حيث أن الضبّاط الأحرار» المصريّون، من خلال أحدهم صلاح سالم الذي تولّى مسؤوليّة الشؤون السودانيّة، ذهبوا بعيداً في التدخّل بالسودان، آملين في تعميم نموذجهم وفي إحراز موقع بين ضبّاطه يدعم مصالحهم في القاهرة، ومستفيدين بالطبع من العلاقات التقليديّة التي ربطت مصر بالطائفة الختميّة.
في هذا الجو المشحون، والمتسم بغلبة الفكر القومي، تأسّس تنظيم لـ»الضبّاط الأحرار» السودانيّين كان في قيادته الضابطان محمود حسيب ويعقوب كبيدة المعروفان بعلاقاتهما المصريّة وزياراتهما إلى القاهرة، كما انضم معظم من عادوا منهم إلى الخرطوم إلى تلك المجموعة العسكريّة الناصريّة.
استعجل “الضبّاط الأحرار» السودانيّين ممّن اعتنقوا الناصريّة، الحكم والوصول الى السلطة من دون شراكة عبّود، حيث سبقوه إلى الانقلاب، إذ نفّذوا محاولة فاشلة في 1957، ثمّ ما لبثوا أن انقضّوا على العهد العسكريّ الجديد، عبر محاولة انقلابيّة أخرى جرت في 1959، بقيادة العروبيّ المتحمّس محمود حسيب الذي أودع السجن وبقي فيه حتّى 1964.
من بين ضبّاط انقلاب 1958، الذي عيّنه الانقلابيّون سكرتيراً لمجلسهم العسكريّ، العقيد حسين علي كرّار، الذي أبهرته زيارة قام بها للقاهرة، و منزلة الجيش في المجتمع المصري، فعمل على نقل فكرة حكم الجيش الى السوان.
في عام 1964 شهد السودان، انقلابا عسكريا، نفذه ضبّاط ناصريّون، وكان أحد الذين اعتُقلوا لضلوعه فيها الضابط الناصريّ جعفر نميري. وبالفعل ففي 1969، كان انقلاب نميري، وهذا قبل أقلّ من ثلاثة أشهر على انقلاب الضابط الناصريّ معمّر القذّافي في ليبيا. أمّا المنفّذون فكانوا ضبّاطاً ناصريّين وقوميّين عرباً وشيوعيّين تشكّل تنظيمهم العسكريّ قبل خمس سنوات وارتبط مباشرةً بالأمين العامّ عبد الخالق محجوب، كما انضمّ إلى «الضبّاط الأحرار”.
لذلك، فان من أهم السمات والملامح المشتركة للانقلابات العسكرية السودانية هي أنها إما أن تكون ممثلة وامتداداً لقوى سياسية أيديولوجية كانقلاب جعفر نميري، وهاشم العطا الفاشل عام 1971 وكانا انقلابان ينتميان إلى اليسار، وكذلك انقلاب عمر البشير وحسن الترابي عام 1989، وكان إسلاموياً، وإما كانقلاب كل من الفريق عبود عام 1959، وكذلك الأخير 2021، تعبيراً عن انسداد الأفق السياسي الناتج عن صراعات وانقسامات بين القوى السياسية، وأزمة اقتصادية محتدمة تجعل مستويات المعيشة اليومية غير محتملة للمواطن العادي.
تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان، انطلق بعد عام واحد من الاستقلال الوطني السوداني، والمنطلق من البرلمان، إذ إن مسلسل الانقلابات العسكرية في السودان 1957 قاده مجموعة من ضباط الجيش وطلاب الكلية الحربية بقيادة إسماعيل كبيدة، ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية بعد الاستقلال برئاسة الزعيم السوداني إسماعيل الأزهري، وبينما فشل هذا الانقلاب نجح آخر بعد عام فقط ضد حكومة ائتلاف ديمقراطية بين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي يرأسها مجلس السيادة المكون من الزعيم الأزهري ورئاسة الوزارة الأميرلاي عبد الله خليل، حين احتدمت الأزمات السياسية بين أطراف الحكومة. وقد استمر حكم عبود لسبع سنوات، وقامت ضده ثورة شعبية عام 1964 حكمت بعدها القوى السياسية السودانية لأربع سنوات فقط.
كما وصل الرئيس الراحل جعفر نميري، إلى سدة الحكم عقب انقلاب عسكري أيضاً عام 1969، وربما هذا ما جعله مؤهلاً لإفشال كل الانقلابات العسكرية التي حاولت أن تحرمه السلطة، منها محاولة انقلاب 19 يوليوز عام 1971 التي عرفت بانقلاب هاشم العطا، الذي استولى جزئياً على العاصمة الخرطوم لمدة يومين، غير أن النميري استطاع أن يعيد سلطته ويحاكم الانقلابيين من المدنيين والعسكريين، وطالت كلاً من زعيم الحزب الشيوعي السوداني آنذاك عبد الخالق محجوب، ومساعده الأيمن الشفيع أحمد الشيخ، وبابكر النور وآخرين من المدنيين، وكان من الضباط قائد الانقلاب هاشم العطا وعشرات من الضباط والجنود.
النميري، سينجح في وأد محاولة انقلاب ثانية عام 1975 بقيادة الضابط حسن حسين، ولقي الانقلابيون على رأسهم المدبر حسين حتفهم رمياً بالرصاص أو شنقاً حتى الموت. في عام 1976، حاولت القوى السياسية المعارضة لنظام النميري التي كانت تنطلق من ليبيا قلب نظام الحكم، وأوكلت المهمة إلى العميد في الجيش محمد نور سعد بمشاركة واسعة من عناصر المعارضة التي تسللت إلى الخرطوم عبر الحدود مع ليبيا، وقد تعامل نظام النميري مع المحاولة بعنف كبير جعلت حكمه لا ينتهي بعد ذلك بانقلاب ولكن بثورة شعبية كبيرة في أبريل (نيسان) 1985.
بالرغم من نجاح عمر البشير في القيام بانقلاب ناجح عام 1989 لصالح الإسلاميين، فإن محاولات الانقلاب عليه لم تتوقف، منها انقلاب عام 1990 بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، حيث انتهت المحاولة بإعدام 28 ضابطاً في الجيش، وكذلك محاولة انقلاب عام 1992 تزعمها العقيد أحمد خالد، كما أن المفاصلة التي جرت بين كل من عمر البشير وحسن الترابي عام 1999 أنتجت بدورها محاولات انقلابية ضد البشير ولصالح الترابي، إذ حاول حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي القيام بانقلاب عام 2004، طبقاً لما قالت به الحكومة وقتذاك، على أنه يبقى أهم ما فعله الترابي ضد البشير والأكثر تأثيراً هو قيادته الصراع مع تلميذه من منصة إقليم دارفور، وهو الصراع الذي كانت نتائجه النهائية إدانة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية متهماً بممارسة جرائم ضد الإنسانية.
في عام 2019، أطاح مجلس عسكري بنظام الفريق عمر البشير الذي حكم البلاد 30 عاما، بعد أشهر من انتفاضة شعبية تزعمتها نقابه المهنيين السودانيين وطلاب الجامعات بمساندة كل من قوى إعلان الحرية والتغيير، وفي يوليوز 2021، أعلن الجيش إحباط محاولة انقلاب هدفت للإطاحة بالمجلس العسكري. اعتقل 12 ضابطا. وبعد بعد أيام قليلة، اعتقل رئيس أركان الجيش هاشم عبد المطلب أحمد، الذي وصف بأنه قائد ومخطط محاولة الانقلاب.
مسلسل الانقلابات العسكرية المدعوم بخلفيات حزبية وثقافية وايديولوجية سيتواصل في السودان، حيث أعلنت الحكومة السودانية في شتنبر 2021، إحباط محاولة انقلاب اتهمت فيها ضباطا ومدنيين مرتبطين بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير. لكن سرعان ما سيطرت الحكومة على الأمور، و قبضت السلطة على قادة المحاولة الانقلابية البالغ عددهم 22 ضابطا بقيادة اللواء الركن عبد الباقي الحسن عثمان، بالإضافة إلى ضباط صف وجنود ومدنيين، وحققت معهم. وسيطر الجيش على الأوضاع في زمن قصير دون حدوث خسائر في الأرواح والممتلكات.
وفي 25 أكتوبر 2021، قاد رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان انقلابا عسكريا، لقي إدانات دولية واسعة، تطالب بإعادة الحكم المدني.
لذلك، فالسمة الغالبة على المشهد السوداني، اليوم، هي الضبابية، اتفاقات هدنة هشة واحدة تلو الأخرى، كر وفر ووضع إنساني يزداد تفاقما، بعد دخول المواجهة العسكرية بين قيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أسبوعها الثالث، أما مصير الحرب فلا يحسمه بالضرورة المتحاربون في ظل الارتباطات الإقليمية والدولية لطرفي النزاع وتزايد الضغوط الخارجية، ليطرح السؤال عن مصدر الحلول السياسية في السودان بعد استنفاذ حلول البنادق و نيران فوهات المدفعيات.