الدار/ افتتاحية
التعليمات الملكية السامية التي دعت إلى إطلاق المشاورات بخصوص تعديل مدونة الأسرة جاءت في توقيت حاسم وتاريخي بالنظر إلى ما وصلت إليه تجربة تطبيق القوانين الحالية الخاصة بالأحوال الشخصية منذ 2003. الجدل الذي تثيره مدونة الأسرة على مستوى النقاش العمومي ولا سيّما في شبكات التواصل الاجتماعي أمر كان متوقعا. تفاصيل المقترحات الخاصة بالتعديلات المرتقبة ليست جاهزة بعد لأن المشاورات نفسها لم تنطلق بعد، وما يروج في المواقع والمنشورات هو مجرد اجتهادات فردية وتوقعات لا تخرج في الغالب عن إطار الرجم بالغيب أو السخرية. مضت عشرون سنة على تطبيق مدونة الأسرة الحالية التي مثّلت ثورة حقيقية في مجال التشريع الأسري ببلادنا ومن الطبيعي أن ننتقل اليوم إلى مرحلة جديدة.
لكن خارطة الطريق التي وضعها جلالة الملك محمد السادس واضحة للغاية وضامنة أساسا لحماية حقوق كلّ الأطراف وتمثيل كل الهيئات الدينية والحقوقية والسياسية والاجتماعية، بالنظر إلى أن المبدأ الرئيسي الموجه لهذه المشاورات والإصلاح الذي قد يترتب عنها هو الموازنة بين مبادئ العدل والمساواة النابعة من الدين الإسلامي الحنيف والمبادئ الحقوقية الكونية التي انخرط المغرب في الالتزام بها من خلال مجموعة من الاتفاقيات الدولية. كلمة السرّ إذا هي التوازن الرفيع والسليم بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتحديث، بين المحلية والكونية. وهذا ما يفسر هذا التنوع الذي سيميز اللجنة المعينة لإجراء هذه المشاورات الخاصة بإصدار مقترحات التعديل.
ولعلّ هذا النقاش الذي نتابعه كل يوم في مواقع التواصل الاجتماعي لا يخلو من بعض الأبعاد الصحية على الرغم من وقوعه في فخ الترويج لبعض الأخبار الزائفة أو المواقف المبالغ فيها، لأنه يؤكد أن المجتمع المغربي مجتمع حيّ ومتفاعل مع مرحلة التحوّل التاريخية التي تعيشها بلادنا، حيث يخترقها طموح هائل من أجل الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدما في تحديث المغرب ودفعه نحو الانعتاق من بعض الظواهر والآفات الاجتماعية التي تعطّله. ولعلّ أهم أبعاد هذا المشروع هو تقديم دفعة إضافية لموقع المرأة المغربية ودورها في المجتمع بالنظر إلى ما حققته في العقدين الأخيرين من نجاحات هائلة وتقدم كبير على مستوى التمكين والسعي وراء المساواة.
صحيح أن الفوارق ما تزال هائلة بين واقع المرأة وواقع الرجل في بلادنا، سواء على مستوى النصيب من الثروة الوطنية وفرص الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والتموقع في مناصب المسؤولية، لكنّنا لا يمكن أن ننكر أن بلادنا أصبحت اليوم نموذجا يحتذى في المنطقة العربية وفي القارة الإفريقية على مستوى إقرار إجراءات التمكين في المجال السياسي وفي مجال قيادة المقاولات على سبيل المثال. النساء البرلمانيات في تزايد، والحكومة والجهاز التنفيذي أصبحا أكثر اعتيادا على ضم شخصيات نسائية كفئة ومناضلة. ومن ثمّ فإن هذا التحوّل الملحوظ أضحى في حاجة إلى دفعة جديدة نحو آفاق أرحب من العدالة الاجتماعية بين النساء والرجال في أفق القضاء على الفوارق التي تفرضها العادات والخصوصيات الثقافية أحيانا.
لكن الأهم في هذا المشروع اليوم هو أن يسير النقاش في أجواء صحية كاملة بعيدا عن أيّ استقطاب سياسي أو توظيف من هذا الطرف أو ذاك. لا يجب أن تُحمَّل مشاورات تعديل مدونة الأسرة أكثر مما تحتمل. إنها ليست معركة انتخابية أو سياسية بل هي فرصة تاريخية جديدة من أجل فتح آفاق جديدة نحو المساواة والعدالة وإنصاف المرأة والطفل، وإقرار ثقافة المسؤولية بين أطراف الأسرة وحمايتها بما يكفي من الإجراءات التشريعية والعقلانية الضرورية. ولعلّ الصراحة التي سيتميز بها هذا النقاش سواء داخل اللجنة الملكية المكلفة أو في الساحة العمومية هي التي ستحسم مدى جرأة التعديلات التي سيتم اقتراحها قبل عرضها على أنظار الملك محمد السادس ثم التصويت عليها في البرلمان. هذا يعني أن سيرورة هذا الإصلاح ما تزال طويلة ولدينا ما يكفي من الوقت للتأمل والتفكير بعيدا عن المواقف السطحية التي لن تقدم ولن تؤخر.