
الدار/ غيثة حفياني
في لحظة وطنية مفعمة بالرمزية والدلالات التاريخية، أطلّ الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على عرش المملكة، بخطابٍ وضع من خلاله معالم رؤية استراتيجية متكاملة لمغرب المستقبل، تؤسس لمرحلة جديدة من البناء المؤسساتي، والتنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على محيطه الإقليمي والدولي.
لم يكن خطاب العرش هذه السنة مجرد استعراض للمنجزات أو خطاب مناسباتي تقليدي، بل حمل في طياته رسائل قوية ومباشرة، عكست الإرادة الملكية الراسخة لتوجيه البلاد نحو نموذج تنموي أكثر شمولية واستدامة. فخلف نبرة الطمأنينة التي طبع بها الملك خطابه، برزت معالم خارطة طريق دقيقة، ترتكز على ثلاثة أعمدة أساسية: تسريع التنمية، تعميق العدالة الاجتماعية، وتكريس الانفتاح الإقليمي.
الركيزة الأولى التي شدد عليها العاهل المغربي تمثلت في ضرورة الارتقاء بالإقلاع الاقتصادي من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، وتحفيز الاستثمارات الوطنية والأجنبية، بما يتماشى مع التحولات العالمية والتحول الرقمي. وقد أولى الملك أهمية خاصة لمواصلة تنزيل ميثاق الاستثمار الجديد، وربط ذلك بإصلاح الإدارة وتعزيز الشفافية والنجاعة المؤسساتية، لتأمين بيئة أعمال جاذبة وأكثر تنافسية.
أما في الجانب الاجتماعي، فقد جدّد الملك التزامه العميق بتوطيد أسس العدالة الاجتماعية والمجالية، لا سيما من خلال التفعيل الكامل للورش الملكي المتعلق بتعميم الحماية الاجتماعية، وتوسيع قاعدة المستفيدين من التغطية الصحية والتعويضات العائلية. كما أكّد على ضرورة النهوض بالتعليم والصحة والتشغيل، باعتبارها ركائز ضرورية لضمان كرامة المواطن وبناء طبقة وسطى صلبة.
وفي بعده الإقليمي، وجّه الملك رسائل واضحة تؤكد على انفتاح المغرب واستعداده لتطوير شراكات متوازنة مع محيطه المغاربي والإفريقي والأوروبي، انطلاقاً من موقعه الاستراتيجي كبوابة بين إفريقيا وأوروبا، وكفاعل مسؤول في محيطه المتوسطي والدولي. وأعرب عن استعداد المملكة للمضي قدماً في تعزيز الاستقرار والسلم الإقليمي، مع التشبث بثوابتها الوطنية ومصالحها العليا، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية.
خطاب العرش لهذا العام لم يكن مجرد توجيه، بل كان بمثابة وثيقة سياسية استراتيجية، تؤشر على بداية مرحلة جديدة من الإصلاحات المهيكلة، وتُعيد رسم العلاقة بين المواطن والدولة على أساس التشاركية والكرامة والثقة. كما عكس الخطاب عمق الرؤية الملكية الاستشرافية، التي لا تنفصل عن نبض الشارع المغربي وتطلعات أجياله الجديدة نحو مغرب أكثر عدلاً وازدهاراً.
في المحصلة، حمل خطاب الملك محمد السادس رسالة أمل، لكن أيضاً نداء مسؤولية موجه لكافة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، للانخراط الجماعي في ورش بناء مغرب الغد؛ مغرب العدالة والفرص والريادة، في عالم يزداد تشابكاً وتحوّلاً.