سلايدرمغرب

صحراويوا “الثل”، ودعوة إلى إعادة بناء الشرعية الإجتماعية لتنزيل الحكم الذاتي بالصحراء المغربية

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.

يمثل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية حالة إستثنائية تتداخل فيها الشرعية القانونية مع الإمتداد التاريخي، وتتقاطع فيها بنية القبيلة مع المتغير السياسي والدبلوماسي، حيث تكشف لنا القراءة المتأنية للمشهد أن الساكنة الصحراوية كانت دائما محور الشرعية الإجتماعية والسياسية في تدبير هذا الملف الحساس.
وحتى يتسنى لنا نقاش الموضوع نقاشا عقلانيا بعيدا عن أي تعصب وديماغوجية فالأجدر بنا الحديث عن الإنسان وإنتمائه القبلي وإرتباطه الوطني.

فمفهوم “الصحراويين” في كثير من الكتابات يبقى محصورا في من يقطنون اليوم بكليميم، طانطان آسا، العيون وبوجدور والداخلة والسمارة، بينما تؤكد الوقائع التاريخية والوثائق أن القبائل الصحراوية تمتد في جذورها وأرومتها إلى عمق المغرب، من سوس والحوز والرحامنة وشيشاوة ومراكش وصولا إلى تافيلالت والخميسات وتمارة والدار البيضاء وغيرها من المجالات، بل لم يكن هذا الحضور امتدادا طارئا، بل ثمرة لحركة اجتماعية عريقة حكمتها أنماط التنقل والترحال التقليدي وأبقتها مرتبطة بمجالها الأصلي رغم تغير أماكن الاستقرار.
تبرز أهمية هذا الامتداد من خلال عملية تحديد الهوية التي أشرفت عليها الأمم المتحدة، حين استمعت لآلاف الأفراد من مدن شمال ووسط المغرب باعتبارهم من أبناء القبائل الصحراوية، وهو ما نعتبره إقرارا دوليا،حتى وإن بشكل غير مباشر، بأن الانتماء القبلي للصحراء لا يقف عند حدود الإقامة الترابية، بل يتجاوزها إلى شبكة واسعة من الروابط الممتدة عبر قرون. ويندرج ضمن هذا الامتداد وجود قبائل صحراوية عريقة في مناطق متعددة مثل أيت لحسن، أيت موسى وعلي، أيت أوسى، أولاد دليم بسيدي قاسم وتمارة، أولاد تدرارين، العروسيين من بني عروس بالشمال، أولاد بن السباع بشيشاوة ، فيلالة بتافيلالت، المجاط، المناصرة، زمور، ولاد بوعشرة بشتوكة، المويسات وأيموراغن… وهي قبائل احتفظت بأسمائها الأصلية وجذورها الإجتماعية نفسها، مما يعكس وحدة المجال القبلي المغربي وعمق تداخله وهو ما تسجله بوضوح روايات الناصري في كتابه الاستقصا.

وفي هذا السياق يتضح أن تنزيل الحكم الذاتي بالصحراء المغربية يمثل مشروعا مجتمعيا شاملا يعيد تنظيم الشرعية داخل النسيج الصحراوي، ولا يقتصر على إدارة ترابية محدودة، فالصحراويون المقيمون داخل الأقاليم الجنوبية يشكلون الكتلة الديمغرافية الأساسية، غير أن الصورة لا تكتمل دون إستحضار إمتداد هم الطبيعي وأبناء عمومتهم بالمدن والجهات المغربية الأخرى وفي المناطق التي استقرت بها القبائل الصحراوية منذ قرون، هذا الامتداد يعكس بعدا وظيفيا في إعادة بناء اللحمة الاجتماعية، لأن الارتباط بالانتماء القبلي ظل أقوى من التحول الجغرافي، وإستمر بإعتباره عنصرا مؤسسا للهوية المشتركة.
المحطات التاريخية تبرز من مخيمات الوحدة، إلى عودة العائدين، إلى تفاصيل عملية تحديد الهوية، بأن هذه الفئات تشكل رصيدا بشريا وإستراتيجيا كبيرا، فهي تتقاسم الرواية التاريخية نفسها، وتحمل الموروث القبلي ذاته، وتحافظ على روابط القربى وأبناء العمومة مع العشائر المقيمة في الصحراء. ويمنحها ذلك موقعا طبيعيا في مشروع الحكم الذاتي، ليس بوصفها إمتداد سكاني فقط، بل باعتبارها عنصرا حاسما في إعادة بناء وحدة النسيج الإجتماعي الصحراوي في شموليته.
إن التجربة التاريخية تؤكد أن القبائل الصحراوية ساهمت بقوة في بناء الدولة المغربية، وأن الجنوب لم يكن في يوم من الأيام هامشا معزولا، بل كان فضاء مؤثرا في المسار السياسي والثقافي الوطني، ويظهر التراث المخطوط والمطبوع، أن الصحراء أنجبت علماء وتجار ومجاهدين أثروا المشهد الحضاري الوطني، كما قدمت القبائل الصحراوية للعرش العلوي المجيد سندا تاريخيا، ويتجلى ذلك في الصلات النسبية بين بعض القبائل والبيت الشريف، وفي مشاركة ممثلي القبائل الصحراوية وغيرهم في مراسيم البيعة والمهام السلطانية، كما قد لعبت مجموعات كبرى مثل الركيبات، تكنة، عرب المعقل أدوارا محورية في الاستقرار، ونشرت العلم والتجارة ودافعت عن المجال، مما يعزز الطابع الوطني المتجذر للصحراء في عمق الدولة المغربية.
ومن منظور إستشرافي ، يتجه التفكير اليوم نحو جعل الامتداد القبلي رافعة إضافية لشرعية الحكم الذاتي، فالأقاليم الجنوبية في مرحلة البناء المؤسساتي تحتاج إلى أطر بشرية مؤهلة تتوفر في شريحة واسعة من أبناء القبائل المقيمين خارج الصحراء، سواء في الإدارة أو الاقتصاد أو الدبلوماسية أو التمثيل السياسي، هذا الحضور الواسع يجسد قوة إضافية في مواجهة الخطاب الانفصالي الذي حاول لعقود تصوير الصحراء ككيان منفصل عن المغرب.
وفي سياق الحسم السياسي المنتظر، يبدو إشراك هذه الفئات خطوة أساسية لتعزيز شرعية الحكم الذاتي، لأنها تقدم بعدا إجتماعيا أعمق وتأكيد على أن الإنتماء إلى الصحراء هو إمتداد تاريخي وثقافي وليس مجرد إقامة جغرافية، كما يمنح هذا المعطى قوة تفاوضية أكبر على المستوى الدولي، لأنه يبرز أن الساكنة المعنية بالحل تتوزع عبر التراب الوطني كله، وأن مشروع الحكم الذاتي موجه لمجتمع كامل وليس لمنطقة محدودة.

ختاما، إن لحظة تسريع الحل السياسي ستدفع نحو إعادة تعريف مفهوم “الصحراوي” بطريقة أوسع وأكثر تطابقا مع الحقيقة التاريخية بإستحضارها لجميع الصحراويين بمختلف جهات المغرب، مما سيؤدي إلى إعادة بناء الوحدة الإجتماعية للقبائل، سواء داخل الأقاليم الجنوبية أو في الإمتدادات المنتشرة عبر جهات المغرب، بما ينسجم مع منطق الدولة الحديثة ويتصالح مع تاريخها العميق. فشرعية الإنتماء لا تتحدد بالمسافة، ولا تقاس بحدود الإقامة، بل تتأسس على ذاكرة القبيلة والخيط الواصل بين الدم والعمومة والأرض، وهو ما يشكل الأساس المتين لأي نموذج مستقبلي للحكم الذاتي بالصحراء المغربية.

زر الذهاب إلى الأعلى