فن وثقافة

الشاعرة المصرية عزة بدر: الإمتاع في الأدب رهين بالمشقة

لا تقف الشاعرة المصرية عزة بدر بين يدي الصفحة البيضاء إلا حين تستبد بها الرغبة الجامحة في "صنع الجديد". تبدع في لحظة فاصلة، كما تقول، بلا أي تمارين في الكتابة. وحين تباغتها القصيدة، بلا استئذان في الغالب، تطوق الشاعرة قوافيها من كل جانب.

في بداياتها الإبداعية، بحثت الشاعرة العاشقة لفضاءات القاهرة عن حي السكرية بالمدينة العتيقة. كانت تبحث في الواقع عن سكرية نجيب محفوظ التي قرأت عنها في ثلاثيته الشهيرة. لكن وقع المفاجأة كان مدويا: فضاء محدود وصغير، كيف احتمل كل أحداث الرواية وأجيالها المتعاقبة على مدى مئات الصفحات؟

وعندما سألت الأديبة الشابة نجيب محفوظ عن المفارقة العجيبة، أجاب بنبرته الهادئة: "يا بنيتي، إن السكرية يبدأ من داخلي، ثم لا ينتهي".. كان الدرس بليغا. ولعل خطاها الأدبية انقادت – منذئذ – على أثر الدرس، باحثة عن سحر الأدب وعن سر الحياة.

عزة بدر، التي استعرضت جوانب من تجربتها الإبداعية خلال ندوة نظمت قبيل اختتام الأيام الثقافية المصرية مساء أمس الثلاثاء بوجدة، راكمت جوائز أدبية عديدة وتوزع إنتاجها الفني بين الشعر والرواية وأدب الرحلة.

وفي هذا الحديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، نستشرف آفاق الشعر ونرتاد عوالم الرواية ونستكشف ما استجد في أساليب الكتابة وتقنياتها.. وفي الطريق إلى كل ذلك، نلقي مزيدا من الأضواء على رؤية الشاعرة المصرية لقضايا الأدب العربي المعاصر وإشكالاته: 

– هل تراجع الشعر – حقا – في سلم أولويات القارئ العربي؟

*نحن لا نعطي الشعر الاهتمام المطلوب. أنا أقول إنه لا بد أن تكون أمسياتنا للشعر.. وأن تكون عواطفنا مع الشعر.. وأن نلتقي بالشعراء في الفضاءات العامة.. ولكن المساحة المتاحة لكل ذلك باتت مقتسمة مع الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي..

– لعل السبب يكمن في ارتباك القارئ وسط زحمة قوالب الشعر المتداولة، من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة فقصيدة النثر. أليست الذائقة العربية تستسيغ الشعر العمودي بفخامته وجرسه الموسيقي أكثر من أي شكل فني آخر؟

*أبدا، الذائقة الأدبية العربية تستقبل العمل الجيد سواء كان قصيدة عمودية أو تفعيلية أو نثرية. وهي تستوعب كل ذلك، وتعودت عليه منذ وقت طويل. غير أن ثمة حاجة ماسة إلى نشاط شعري واسع النطاق حتى يعود هذا الجنس الأدبي فارسا للساحة، كما كان، إلى جانب الرواية والقصة طبعا.

– لكن.. ألا ترين أن إغراق بعض الشعراء في الغموض وتوظيف الرموز والاستعارات العصية على الفهم يحدث حالة نفور من قصائد مبهمة؟

*هذه المسألة تحتاج إلى دربة. إذا سعينا إلى أن تتعرف الأجيال الجديدة إلى أنواع مختلفة من الكتابة والسرد والشعر، سنثري المشهد الثقافي حتى يصير النص الشعري، على ما قد يكون فيه من الغموض، سهلا ومتاحا ويملك القارئ كل مفاتيحه. وأنت ترى أن المرء حين يتعاطى مع أي فن جديد، ولتكن الإلكترونيات أو الكمبيوتر مثلا، فإنه يتعلم طوال الوقت تقنيات ومعارف جديدة. وذاك هو شأن ممارسة الثقافة الشعرية، إنك بتلك الدربة تستطيع أن تضع النقاط فوق الحروف وأن تدرك المعاني الكامنة وراء ذلك الغموض.

– مقابل ذلك، السيدة عزة، يفتقر النص الشعري الغامض إلى القدرة على الإمتاع. وهذه القدرة هي غاية كل عملية إبداعية. كيف يقبل القارئ – مثلا – على قصيدة لا تحقق له هدف الإمتاع، وعلى رواية تضيعه في غموضها الملتبس ومتاهاتها "التقنية" التي لا تنتهي؟

* هناك الكثير من الكتابات يكون فيها ذاك النوع من "الإمتاع والمؤانسة". وهناك كتابات أخرى تخاطب الإنسان من زاوية فلسفية فتطرح قضية الوجود وهموم الإنسان. والحقيقة أن المتعة تحدث عندما نمنح أنفسنا لها. فإذا لم يكن لدينا الوقت للتمتع باللغة وألغازها وألعابها وبفهم ما بين السطور، فلن يأتي الإمتاع من تلقاء نفسه. يجب أن ندرك أن الدرر تكمن داخل الأصداف. والإمتاع يجب أن نذهب إليه، لأنه لا يأتي إلا بمشقة. وأنت مطالب بأن تبذل الجهد حتى تحصل على ذلك. هل يمكنك – مثلا – أن تستمتع بالرياضة دون أن تجهد نفسك بالذهاب إلى الملعب؟ لا يمكن.

– لنتحدث قليلا عن الأدب في عصرنا الموسوم بالسرعة والإنجاز.. كيف يمكن لهذا الأدب – الذي ولد في حضن الكتابة منذ آماد بعيدة – أن يواكب عالم اليوم المدجج بالعلوم والتقانة، السائر على إيقاع متسارع الخطوات؟

* الأدب شأن إنساني. سواء كان مغربيا أو مشرقيا أو أجنبيا. لأنه يتناول معاناة الإنسان ومواجهته للواقع وللتحديات من حوله. نحن نعيش في عصر أصبح أكثر سرعة وأكثر لهاثا وأكثر تعلقا بوسائل الاتصال الحديثة. كل شيء يتغير بلمسة زر. هذا الواقع يؤثر على الأدب، وعلى الأسلوب الفني الذي بات في الكثير من الأحيان تلغرافيا ويشبه الرسائل القصيرة أو الرسائل على الأنترنت. ولعلك تلاحظ أن الشخصيات الروائية تبدو متوترة، سريعة، تبحث عن نفسها، تفتقد أشياء كثيرة، وتحلم بالرومانسية.

– على ذكر الشخصيات الروائية.. يبدو أن الرواية هي الأكثر بروزا على صعيد التداول الإعلامي. ما تقييمك لهذا الجنس الأدبي في العالم العربي؟

* الرواية اليوم هي ديوان العرب: فيها السرد والشعر والحكاية والومضة. وهي تستقي من الفنون التشكيلية والبصرية وفنون الاتصال الحديث، وتوظف تقنيات حديثة في الكتابة "تشبه" وسائل التكنولوجيا. أعتقد أن الرواية باتت حقا "ديوان العرب" – مثلما كان الشعر قديما – ولكن هذا لا ينفي أن للشعر أهميته وكيانه الخاص، كفن من فنون الأدب، إلى جانب الرواية.

– والقصة القصيرة؟

* في رأيي، القصة القصيرة بالغة الأهمية، لأنها منتشرة في الصحف والمجلات، وتقبل عليها وتنشرها بشكل دائم. عندنا في القاهرة، يؤشر هذا الجنس الأدبي على حضور لافت في أكثر من مطبوع ودورية. ومن الواضح أنها مهمة بالنسبة للقارئ، لأنها تعطيه فكرة عن الأدب. القارئ الذي لا يملك الوقت الكافي ليقرأ الرواية، يستطيع أن يقرأ قصة قصيرة. وبذاك، يتذوق جمال الأدب ويستكشف أساليب السرد ويأخذ فكرة عن مسار هذا الفن في عالم سريع ومتوتر.

– من حيث أساليب المعالجة، السيدة عزة، يبدو أن الكتاب الجدد اختطوا طريقا خاصا، في الرواية كما في القصة القصيرة، بعيدا عن أسلوب الرواد الأوائل، أمثال نجيب محفوظ..

* نحن أحفاد هذا الجيل. ومهما تطورنا في الأساليب وطرق وتقنيات الكتابة، فإن الرواد هم الرواد. أنا لا أحبذ "الانقطاع المعرفي" عن تجربة الرواد الأوائل للرواية والقصة القصيرة والشعر، لأن المعرفة ينبغي أن تكون متصلة. وأنا أزعم أننا لا نستطيع أن نتطلع إلى الجديد ونكتبه إلا إذا درسنا هذا التراث الذي لا يزال يخاطب الوجدان والعواطف والأفكار. لدينا ميراث من الأدب والكتابة والتقنيات، لذلك لا يمكن أن نبدأ من الفراغ.

– لكن تجارب روائية كثيرة صنعت نوعا من القطيعة مع البناء الكلاسيكي للرواية. وأنت قد تقرئين روايات خالية من التشويق ومن التصاعد الدرامي للأحداث. كيف يتحقق الاتصال المعرفي، الذي تحدثت عنه، في ظل هذا النزوع المتنامي نحو الإبداع المتحرر من القواعد والصيغ الجاهزة؟

* في أعماله الأخيرة، مثل أحلام فترة النقاهة وأصداء السيرة الذاتية، قدم نجيب محفوظ ما يشبه القصة – الومضة وما يشبه المقطوعة الشعرية، في نزوع واضح نحو التكثيف. هو نفسه تغير في أعماله تلك وتواصل مع تطورات عصره، وهو الأديب الذي صنع سجل الرواية الواقعية وأبدع شخصيات لا زالت تعيش بيننا بكل تفاصيلها.. نحن لا نقلد نجيب محفوظ ولكننا نحترم إبداعه ونقدر تأثيره، ونعيد قراءة تراثه المتجدد. وكلما قدمنا قراءة جديدة في هذا الأدب فإننا نكتشف معاني أخرى لم تستشكف بعد. وهذا الأمر ينطبق حقا على الرواد الأوائل في كل البلاد العربية الذين قدموا الكثير للرواية والقصة القصيرة والقصيدة الشعرية. نعم، الجيل الجديد من حقه أن يجرب. ولكن، عليه أن لا ينسى أن الرواد الأوائل بذلوا كل الجهد لرعاية هذا الفن وتقديمه للعالم.

– في النقد كما في الأدب، تبدو التجربة المغربية شديدة الخصوصية والتميز. ولعلها راكمت منجزا إبداعيا على أكثر من صعيد. كيف تتفاعل الشاعرة المصرية عزة بدر مع المنتوج الفني المغربي؟

* لدينا تقدير بالغ للأدب المغربي وللأدباء المغاربة ونستفيد كثيرا من هذا الزخم الإبداعي، خاصة وأن هذا الأدب أفاد من الترجمات ومن الأدب الغربي بشكل قوي. هناك تقنيات ونظريات في النقد الأدبي "متطورة جدا" في المغرب. وهناك كثير من المؤلفات للكتاب والنقاد المغاربة نعدها مراجع لنا. ويسعدنا دائما أن نتطلع إلى هذا الأدب وأن نقرأه وأن يكون هناك تواصل معرفي بيننا.

– وفي مصر، التي أنجبت نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وشبابا مبدعين على الدرب..؟

* في مصر، ثمة نوع من استبطان التجربة الرائدة والحفاظ على البذور الأصيلة للسرد في ظل التلاقح مع الثقافات الأخرى. يحدث هذا مع مختلف الأجيال، ومنها أجيال مفارقة للرواية التقليدية، تحاول أن تجد نصها الخاص. هناك زخم لافت.. وشباب يحاول أن يجد طريقا إبداعيا جديدا.

وفي المحصلة النهائية، لا أحد يستطيع الآن أن يعزل نفسه ويبقى على نسق واحد أو في غرفة مغلقة أو أسير أسلوب واحد في الإبداع.

المصدر: الدار – وم ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

6 + 18 =

زر الذهاب إلى الأعلى