عاشوراء المغرب.. احتفالات “انتحارية” (تحقيق حصري)
الدار/ جميلة أوتزنيت – تصوير وتوضيب: ياسين جابر
تمثل عاشوراء في عرف المغاربة مناسبة خاصة، تطبعها مظاهر احتفالية شعبية بامتياز. تتنوع هذه المظاهر، بين اقتناء هدايا للأطفال، من ألعاب وملابس، أو آلات إيقاع موسيقية كـ‘‘الطعارج’’ مثلا، مع تحضير أشهر الوجبات والأطباق الشعبية.
لكن لوحظ في الآونة الأخيرة، أن مظاهر الاحتفال هذه أخذت مسارا أكثر عنفا، حتى صارت أقرب إلى أعمال شغب، وحرب شوارع، قد يروح ضحيتها أبرياء من أعمار مختلفة.
حرب الشوارع
ما إن يحين موعد الاحتفال بذكرى عاشوراء الدينية، حتى تتحول أغلب شوارع وأزقة الأحياء الشعبية في كبرى المدن المغربية، إلى ساحات قتال، بسبب الشغب والرعب، الذي يبثه مراهقون جامحون في نفوس المارة والقاطنين عموما.
وما يقف وراء الأعمال الجنونية هذه، هو انتشار بيع الألعاب النارية والمفرقعات الخطيرة، التي وإن تم منع بيعها، إلا أنها مازالت متداولة سرا، ويقبل عليها الأطفال والشباب.
من بين هذه الأحياء مثلا، الحي المحمدي، البرنوصي، درب السلطان وغيرها في الدار البيضاء. هذا الدرب الذي شهد وفاة شاب في مقتبل العمر، بسبب ‘‘قنبلة’’ صغيرة انفجرت في عنقه ومزقت معها شرايينه، ليلقى حتفه.
وكثيرة هي الحوادث التي تتكرر في مدن من قبيل مدينتي سلا والقنيطرة، حيث تسود الأعمال الجنونية نفسها، لثلاثة أيام متواصلة، رغم تدخلات رجال الأمن.
قانون لا يُطبق
جرى أخيرا تطبيق قانون يعاقب بالسجن كل من يقتني أو يروج للألعاب النارية، وقد يسجن من سنتين إلى خمس سنوات كل مخالف.
القانون المنظم لصنع وتداول المواد المتفجرة ذات الاستعمال المدني، دخل حيز التنفيذ أخيرا، وبموجبه فإن كل من يحوز دون مبرر قانوني، ‘‘‘مواد أولية أو مواد متفجرة أو شهب اصطناعية ترفيهية أو معدات تحتوي على مواد نارية بيروتقنية’’، يجرم بالحبس وبغرامة من 50 ألف درهم إلى 500 ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، وفق المادة 54 من القانون المذكور.
القانون 22.16 يحظر أيضا صنع واستيراد وتخزين المتفجرات والشهب الاصطناعية الاحتفالية بدون ترخيص. وينص على غرامة، تتراوح ما بين 10 آلاف و20 ألف درهم، في حق كل من يستغل مصنعا أو مستودعا ‘‘لا يمسك سجلاته وتصاميمه بشكل منتظم، أو يمتنع عن تقديمها لأعوان الإدارة أو لا يوافي الإدارة بالمعلومات المطلوبة’’.
وكذا كل من قام باستيراد الشهب الاصطناعية الترفيهية ‘‘من الفئة الأولى أو صنعها، أو قام بتخزينها أو الاتجار فيها أو توزيعها، وكل من قام بعرقلة المراقبة التي تقوم بها الإدارة’’.
زيارة ميدانية
رغم المنع مازالت هذه المفرقعات تروج في الأسواق، ولم تنجح بعد العقوبات الصارمة في وضع حد لها، علما أن الحكومة المغربية كانت تعقد آمالا كبيرة على هذا القانون. فما السبب وراء استمرار بيع هذه الممنوعات في الأسواق على نطاق واسع؟
لقد كان من السهل على فريق البرنامج، اقتناء هذه الألعاب النارية ، وبعضها كان شديد الخطورة. حيث زار الفريق، ‘‘حي الخبازات’’ بمدينة القنيطرة، عاصمة الغرب، وهناك التقى بأيوب كرير، رئيس جمعية أوكسجين للبيئة والصحة، الذي يرصد أماكن باعة المتفجرات والألعاب النارية المتخفين، كل سنة، من أجل مراسلة السلطات المحلية بخصوص هذا الموضوع.
يقول أيوب كرير: ‘‘ إن هذه المفرقعات النارية تهدد سنويا سلامة المواطنين، خصوصا وأن خطورتها تزيد في كل مرة، حيث يتمادى المراهقون والشباب في احتفالاتهم بها لدرجة كبيرة’’. وصلت هذه المخاطرة حد استخدام قنينات غاز الطبخ من الحجم الصغير، حيث أقدم شباب من مدن مختلفة على تفجيرها بحثا، عن فرجة تشفي غليل الحماسة الجامحة لديهم.
بيع في الخفاء
على طول الزقاق المعروف بالرقم 36، وجدنا مراهقا يشتغل في محل لبيع الملابس، يحتفظ بعلب هذه المفرقعات في مكان آمن بعيد عن أعين رجال الشرطة.
طلبنا منه شراء بعضها وسألناه عن الدارج هذا العام، ليجي بالقول :‘‘ قنبلة داعش، هي الرائجة كما السنة الفارطة’’. طلبنا منه شراء كميات كبيرة بسعر الجملة، فتوجه بنا إلى محل جزار، يبيع هو أيضا هذه الممنوعات في الخفاء. تبادلنا معه أطراف الحديث حول الموضوع، واسترسل قائلا: ‘‘ حتى لو ذهبتم إلى مصدرها في مدينة الدارالبيضاء، فلن تفلحوا في اقتنائها، لكونهم يتعاملون فقط مع زبائنهم المخلصين’’.
قنابل مختلفة الحجم، تتشارك الخطورة نفسها. يلعب بها الصغير والكبير، دون حسيب أو رقيب. قام فريق البرنامج بتجربة بعضها وكانت النتيجة صادمة. انفجارات مدوية، يمكن أن تتسبب في اندلاع حرائق أو إصابات بالغة، غالبا ما يكون ضحاياها من الأطفال. فضلا عن إشعال حرائق بمنازل أبرياء ، دون سابق إنذار.
مسؤولون وتجار ‘‘فوق القانون’’
حجم الضرر الذي تخلفه هذه الألعاب يدفعنا إلى التساؤل حول مصدرها، وكان الجواب في درب عمر بالدار البيضاء ، وتحديدا الزقاق المعروف محليا بـ(زنقة اليهود).. هناك وجدنا أطفالا ومراهقين يعرضون أنواع مختلفة من المفرقعات للبيع علنا، لنكتشف في ما بعد أنهم مجرد صلة الوصل الوحيدة، بين تجار الجملة الذين يعملون في الخفاء، ومشترين محتملين.
هؤلاء التجار حسب مصدر موثوق من درب عمر، يقتنون البضاعة من مسؤولين نافذين، وصفهم بكونهم ‘‘فوق القانون’’، لهم نفوذ داخل البرلمان وخارجه، يسهل لهم عمليات الاستيراد والبيع.
يستوردون هذه المفرقعات بكميات كبيرة من دول آسيا وتحديدا الصين، ودول أخرى كإسبانيا.
هنا يطرح سؤال حول مدى تفعيل الإجراءات اللازمة في المراقبة من طرف الأجهزة المختصة. في هذا الصدد، أوضح أيوب كرير، رئيس جمعية أوكسيجين، أنه يراسل وزارة الداخلية بهذا الخصوص دون أن يتلقى جوابا. ورغم الحملات التمشيطية التي يقوم بها رجال الشرطة، إلا أنها تبقى غير كافية.
‘‘قنابل’’ يدوية
والأخطر من هذا كله، أن الأطفال والمراهقين في هذه المناسبة، يعمدون إلى صنع ما يشبه ‘‘قنبلة’’ يدوية، مصنوعة من حمض الهيدروكلوريك، المعروف عند المغاربة باسم (الما القاطع) أو الماء الحارق.
يمزجون هذا السائل بمواد من ألومنيوم مع مسامير وقطع أخرى حادة، تنفجر جراء التفاعل الكيميائي في قنينات من زجاج أو بلاستيك. عاين فريق البرنامج كيف أنه من السهل على المراهقين التوصل إلى مثل هذه المواد. فرغم خطورة حمض ‘‘الهيدروكلوريك’’ الشديدة، استطاع أحد المراهقين المتطوعين معنا في البرنامج، شراء هذه المادة دون أي مشاكل. وهذه الممارسات غالبا ما تؤدي إلى الإصابة بحروق وجروح، وأحيانا إلى تشوهات في الوجه أو فقدان البصر.
في ظل كل هذه الأوضاع، قد تتحول عاشوراء، التي يُتغنى بها في الموروث الشعبي المغربي إلى رثاء، إن ظلت مظاهر الاحتفال العنيفة هذه، خارجة عن السيطرة..