منتصر حمادة
هذه إشارات أولية من وحي زيارة قمنا بها إلى فعاليات معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب، والذي يُنظم هذه الأيام في الفترة الممتدة بين 6 و16 فبراير الجاري.
يجب التنبيه بداية إلى أن هذه الإشارات تهم الجوانب الإيجابية في الحدث، ولا تهم قط الجوانب السلبية، وهي متوقعة بشكل عام، ولا تهم المعرض وإنما الأداء التنموي المغربي برمته، كما أشار إلى ذلك الملك السادس في خطاب مكاشفة ألقاه في 30 يوليو 2019، إضافة إلى أنه في حال فتح باب النقد، فسوف نجد صعوبة في إقفاله، من فرط الإشارات السلبية التي لا حصر لها، أقلها أن الأمر لا يتعلق بمعرض دولي للنشر والكتاب، كما يُروج له منذ عقود، وإنما لا يتجاوز معرضاً إقليمياً أو معرضاً عربياً وكفى، لأن المواصفات التي تخول لنا الحديث عن معرض دولي غير متوفرة، بل لا يمكن مقارنة أداء معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب مع معارض إقليمية، ومنها معرض القاهرة أو معرض الرياض على سبيل المثال، والتي لا يمكن مقارنتها بدورها مع معارض دولية، وفي مقدمته معرض فرانكفورت أو حتى معرض باريس، وبالتالي لا يليق بنا الحديث عن معرض الدار البيضاء الدولي للنشر والكتاب.
هكذا تكون الأمور واضحة منذ البداية، من باب احترام ذكاء القارئ (ة) الكريم (ة)، لذلك ارتأينا التوقف عند بضع إشارات تساهم في تمرير طاقة إيجابية، يستفيد منها الجميع، داخل وخارج المعرض.
تفيد أولى هذه الإشارات أن الحضور المتكرر للأطفال في فعاليات المعرض، وخاصة التلاميذ القادمين من المؤسسات التعليمية، في زيارات جماعية، أمر مفرح بحق، كما عاينا ذلك أمس الأربعاء 12 فبراير، رغم الضجيج الكبير الذي يُثيره هذا الحضور بسبب عطلة نصف اليوم، ولكن لا ضير، هذا ضجيج “مُرحب” به إن صح التعبير، ما دام مصاحباً بتحفيز وتنبيه الأطفال إلى أهمية عشق الكتاب والقراءة والمعرفة، وما جاور هذه الممارسات التي تنفع الناس.
نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار أننا نتحدث عن أطفال اليوم، هم قطعاً جيل ورجال المستقبل، وهؤلاء هم الأمل، عندما نقارن مع السائد اليوم وذلك الكم الكبير من الرداءة التي أصابت شتى القطاعات الحيوية، في السياسة والاقتصاد والفكر والتديّن والاجتماع، ولا نتحدث عن استثناءات.
من بين الإشارات الإيجابية أيضاً، ذلك الحضور المتصاعد للإصدارات الإنجليزية، مقارنة مع السنوات السابقة، وهذا أمر مُبشر أخذاً بعين الاعتبار التأخر الكبير الذي نعاني منه مغربياً في هذا السياق، بحكم اقتصار المجال البحثي مثلاً، على الاشتغال باللغة العربية وتليها اللغة الفرنسية، بينما اللغة الإنجليزية، التي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في مجال البحث العلمي، فالأحرى في العالم الرقمي (تتراوح النسبية بين 80 و85 في المائة)، لا زالت غائبة بشكل كبير بحثياً وإعلامياً عندنا.
هذه إشارة تتقاطع مع إشارة إيجابية موازية، تطرق إليها محمد بن طلحة، أحد أعمدة البحث العلمي في جامعة القاضي عياض بمراكش، وهو الأستاذ الجامعي هناك، والمتخصص في موضوع السياسات العمومية، وجاء ذلك على هامش تقديم كتاب للباحث الحبيب الستاتي زين الدين، بعنوان “الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية” [سوف نتطرق لهذا الكتاب في مقالة خاصة لاحقاً بحول الله]، في جلسة مفتوحة مع جمهور المعرض، أطرها الباحث يوسف فلاح، حيث تضمنت مداخلة محمد بن طلحة بعض النصائح في هذا السياق، ونتوقف هنا عند نصيحتين: تفيد الأولى أنه لا مفر للطلبة والباحثين من الانفتاح على اللغات، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية بالطبع؛ وتفيد الثانية، أنه لا مفر للطلبة والباحثين أيضاً من النهل الفلسفي، لأنه من شأن هذا النهل أن تصاحبه تبعات إيجابية على العدة النظرية للباحث المعني، في حقل العلوم السياسية مثلاً، أو العلوم الاقتصادية.. إلخ، وليس صدفة، أنه عندما تصفحنا لأول وهلة كتاب الحبيب الستاتي زين الدين سالف الذكر، وهو عمل مؤسس على مرجعية العلوم السياسية، مع تناول معرفي رصين، اتضح أن أول مرجع فيه، يعود للفيلسوف هيغل.
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فقد لوحظ أن العديد من طلبة المؤلف كانوا ضمن الضيوف، بل أخذوا صوراً مع الحبيب الستاتي زين الدين، و”سيلفيات” في أجواء بعيدة عن أجواء الجامعة، ولكنها تمرر رسائل إيجابية جداً، لأن تكرس ثقافة اعتراف الطلبة بالأستاذ، ما دام هؤلاء، غير معنيين نظرياً بشد الرحال نحو المعرض من أجل حضور حفل تقديم المؤلف، ومع ذلك فعلوا ذلك بكل أريحية ومحبة، وهو مقام الاعتراف أيضاً الذي مَيّز مداخلة محمد بن طلحة في معرض الحديث عن المؤلف، ومَيّز مداخلة المؤلف في معرض الحديث عن أستاذه محمد بن طلحة، لأن العمل في الأصل، كان أطروحة دكتوراه، وتعرضت لبعض التنقيح قبل صدورها في حلة كتاب، اتضح لاحقاً أنه أصبح مرجعياً في إحدى المؤسسات الجامعية في ولاية كاليفورنيا، إلى درجة ترجمة أهم مضامينه، مع احتمال أن يُترجم كاملاً لاحقاً.
هذه إشارات إيجابية تستحق كثير تأمل، ما دامت تساعدنا جميعاً على مواجهة هذه الرداءة المُعمّمة التي تحاصرنا من كل جانب كما سلف الذكر أعلاه.
نأتي لإشارة إيجابية أخرى، وتهم حفل التوقيع على أحدث أعمال محمد التهامي الحراق، وهو عمل يندرج في سياق الانتصار لخيار “الأفق الثالث”، أي أفق معرفي يأخذ مسافة نظرية من الخطاب الإيديولوجي السائد في المغرب والمنطقة مع عديد إيديولوجيات، أساءت إلينا وإلى غيرنا.
فقد لوحظ على هامش حفل توقيع الكتاب، حضور العديد من أفراد العائلة الصغيرة والكبيرة للمؤلف، رغم عناء السفر والازدحام في ممرات المعرض وما إلى ذلك، لنقل إن الأمر مّيز حضور بعض أهل “دار الضمانة”، أي مدينة وزان، وهذه إشارة تبعث على التفاؤل، لأن احتفاء المقربين بصدور عمل بحثي رصين هو الآخر، يغذي الطاقة الإيجابية لدى المؤلف من جهة، ويُمرر رسالة إلى المتلقي أو قل رسائل، أقلها أن العائلة المغربية لا تجتمع في المناسبات الدينية والوطنية وحسب، ولكن تجتمع أيضاً في المناسبات العلمية والنافعة لها ولغيرها.
كانت هذه بضع إشارات، من باب تكريس قيم الإنصاف، وعدم اختزال التعامل مع هذه الفعاليات من منظور أحادي أو سوداوي، ما دامت الأمور النسبية في نهاية المطاف، فكما سوف نجد عدة ممارسات سلبية، ولم نتطرق إليها، هناك بالطبع الوجه الآخر للعملة، ويقتضي التنويه والتقدير.