علماء عرب ومستشرقين يطلعون على تجربة علماء المغرب في تحقيق الدراسات اللغوية والأدبية
الدار: تقارير
استقبل مركز ابن أبي الربيع السبتي، مؤخرا، مُحَقِّقِي كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» المستشرقَين الهولنديين شورد فان كوننكزفلد وخيرارد فيخرز، والمؤرخ والمحقق العراقي قاسم السامرائي، مع جمع من أساتذة الجامعة والباحثين المشتغلين بالتحقيق وخدمة التراث، منهم الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي الأستاذ بقسم الدراسات العربية بكلية الآداب بتطوان والدكتور عبد الواحد العسري رئيس شعبة الدراسات العربية بالكلية، والدكتور بدر العمراني ومحمد رضا بودشار ومحمد القاضي.
واطلع الوفج على المركز، المتخصص في الدراسات اللغوية والأدبية وواحد من المراكز الموجودة في المغرب التابعة للرابطة المحمدية للعلماء، مشيرا إلى بعض أعماله وتحقيقاته التي خرجت للناس، ومجلته التي تصدر سنويا باسم «فقه اللسان»، والباحثين الذين يشتغلون في المركز، ثم بموقعه على الشبكة حيث تُنشر فيه مجالس الدرس والبحوث التي يكتبها باحثو المركز.
وقد استُهل الحديثُ بالكلام عن عبارة وردت في أول كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» وهي قول كاتبه: «من نعم الله تعالى عليّ أن جعلني مسلما في بلاد الكفار منذ أعرف نفسي…»، فإن عبارة: «منذ أعرف نفسي» هي من استعمال أهل شمال المغرب في عاميتهم إلى اليوم، ومثلها: أعقل، فهي بمنزلة «أعرف»، فأفاد الدكتور السامرائي أن عقل وتعقّل واعتقل كلها تأتي بمعنًى. وبهذا يتبين أن كلام أهل شمال المغرب اليوم قريب من كلام الأندلسيين حينئذ، وكذلك الأمر في كثير من أمثالهم، وقد تحدث الدكتور الحافظ الروسي في هذا الشأن عن الكتاب الذي طبعه مركز ابن أبي الربيع السبتي «ري الأوام ومرعى السوام في نكت الخواص والعوام» للزجالي الأندلسي، بتحقيق الدكتورة نزيهة المتني، على أن له اتصالا بهذا الموضوع، وأنه مما يُعلم به ما كان يستجيده الأندلسيون من الأمثال العربية الفصيحة، مما يلائم بيئتهم وطباعهم.
وقد سأل الدكتور السامرائي عمّا إذا كانت الأمثال في هذا الكتاب قد قورِنت بالأمثال العربية الأخرى، فأُجيب بأن صاحب الكتاب كان ينظر إلى أمثال رجال القرن الثالث والقرن الرابع، أخذ عددا منها من «ثمار القلوب» للثعالبي، ففيها من أمثال الجاهليين والمولدين.
وفي هذا السياق عقّب الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي بأن الذين أخذوا على محققي كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» لا يعلمون أن اللغة العربية مستويات، وأن صاحب الكتاب كان يكتب بهذا المقام اللغوي الذي كان في عصره، مشيرا إلى وجوب التمييز بين هذه الفروق في مستويات اللغة حتى لا يقع الغلط، وأضاف الدكتور السامرائي أن هذا من واجب المحقق، فالمحقق ينبغي أن يكون عالما بلغة المؤلف حتى يميز بين ما هو من كلامه الذي قصده، وبين ما أخطأ فيه الناسخ.
بعد ذلك جرى ذكر ابن مضاء الأندلسي، وتحدث الأساتذة في ذلك بما يرفع اللبس؛ فبيّن الدكتور الحافظ الروسي أن كثيرا من الناس يخلطون بين ابن مضاء صاحب كتاب العروض، وبين ابن مضاء صاحب الرد على النحاة، وذكر أن الأول يُعرف بابن الحَصّار، وكتابه في العروض حققه أبو مدين شعيب تياو الباحث في مركز ابن أبي الربيع السبتي وطبعه المركز سنة 2017، أما صاحب الرد على النحاة، فقد تكلم عنه الدكتور عبد الرحمن بودرع، فذكر أن في نسبة هذا الكتاب إليه نظرا؛ لأن الذين ترجموا له لم يذكروا له هذا العنوان، ومنهم ابن فرحون، فقد قال في الديباج المذهب: «وصنف فيما كان يعتقده منها (أي العربية) كتابَه المُشرق».
على أن كتاب الرد على النحاة بقي على ما هو عليه من الشك في نسبته إلى أن جاء الدكتور شوقي ضيف فأثبت نسبته إلى ابن مضاء. قال الدكتور عبد الرحمن بودرع: وهو رسالة فيها توهين للنحو العربي ورد على العلل، وليس وراءه شيء، فهو رد من غير الإتيان ببديل، وهو (أي ابن مضاء) فقيه ظاهري أكبر منه نحوي. وذكر أن أحد الباحثين قال فيه: ما كان كتاب ابن مضاء إلا صيحة في واد ونفخة في رماد.
وقد عقّب الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي على كلام الباحث بأن الأمر ليس كما ذكر، وإنما ابن مضاء رجل جاء في زمانه، فالمشروع المُوَحِّدي كان يميل إلى الرجوع إلى الأصل وترك الافتراضات والتّعمل، فابن مضاء كَتَب في هذا الإطار في القرن السادس، ولم يكن عنده مشروع نحوي بالمعنى القديم كما كان عند سيبويه أو الخليل، أو حتى ابن السراج مثلا.
بعد ذلك تكلم المستشرق الهولندي فان كوننكزفلد عن عملهم في تحقيق كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» على نسخة وحيدة بمدريد سنة 1997م. ثم جرى الكلام بهم في ضُروب من قضايا الأسرى في العصور الوسطى، فتحدثوا عن كتابات بعض الأسرى ممن مكث في الديار الأوروبية التي كتبها أصحابها باللغة العربية، أو التي كُتبت بغير العربية ثم تُرجمت.
وكان الحديث منصبا بالأساس على الجانب الديني في هذه الكتابات، مما يُحوج إلى مزيد من النظر في أحوال هؤلاء الأسرى، فإن بعضهم كان ممن أُخذ أسيرا ثم اشتغل بنسخ المخطوطات العربية وغير ذلك مما هو متصل بأمور العلم.
وقد ذكر المستشرق الهولندي أن عندهم سلسلةً من الكتب والأطروحات في مُسلمي هولندا وأوروبا بشكل عام، كما أن لهم منشوراتٍ في تاريخ المغرب والأندلس، وخاصة في تاريخ الإسلام كأقلياتٍ في المجتمعات الأوروبية، وفي هذا السياق جاء اختيارهم لتحقيق هذا الكتاب. وذكر أن الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي ترجم المقدمة التاريخية لهذا التحقيق، وأعاد نشرها في تطوان.
وأضاف الدكتور الحافظ الروسي في هذا السياق أنه كان من بين هؤلاء راهب عراقي اسمه «إلياس الموصلي» تردد بين دول أوروبية مختلفة ورحل إلى ما يُسمى اليوم بأمريكا الجنوبية، وكتب مذكراته، وأنها طُبعت بعدُ بعنوان: الذهب والعاصفة، ذكر فيها هذا الراهب أنه وصل إلى إسبانيا أيام محاكم التفتيش، وكان يسميها هو: محاكم الإيمان.
وفي هذا السياق أفاد الدكتور عبد الواحد العسري بأن المستشرق فان كوننكزفلد له محاضرة عنوانها: الأسرى والعبيد المسلمون في أوروبا، ألقاها باللغة العربية في كلية الآداب بتطوان، وقد نُشرت في مجلة الكلية.
وبعدُ، فقد أفضى الكلامُ بالأساتذة إلى قضية التحقيق والاشتغال بنشر التراث، فتقدم الدكتور قاسم السامرائي بين يَدي الحاضرين بمداخلة في هذا الشأن، تكلم فيها عن بعض تجاربه في التحقيق، وإني مورِدها ههنا كما تفضل بها، قال:
«التحقيق ليس سهلا يقوم به مَن شاء كما شاء، وهو ليس كما قال الكثير من المحققين: أنْ يُعيدوا النص كما أراده المؤلف، هذا هراء؛ لأن المؤلف في كثير من الأحيان يصحح ويحذف ويضيف، بل يعيد الكتابة. وما تُعاد كتابته يُسمى «مُبَيَّضَة»، فتبقى المسوّدة متداولة والمبيضة مهملة، إلى أن يُقيض الله سبحانه وتعالى مَن يكتشفها، فهنا يكون الاختلاف بين المبيضة والمسودة، مَن يحكم على صحة هذا النص وعلى خطأ هذا النص؟ المحقق الفَطِن الذي جاهد حياته في الإلمام بالثقافة الإسلامية بكل فروعها، ولا أقول: بفرع واحد، بكل فروعها، السليمة والسخيفة، فعندما أقول: السليمة، معناها: المعروفة، والسخيفة غيرُ المعروفة، ككتب النكاح مثلا، وكتب السحر، وكتب اللغة، ففي كتب اللغة، هناك الكثير من الحكايات أُدخلت فيها.
مثلا: حين كنت أُفهرس مخطوطات مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقع بيدي كتاب ليس له أول، ولكن له آخر، فحاولت بشتى الطرق أن أجد له اسمَ مؤلِّف أو عنوانا فما استطعت، فتركته جانبا. بعد عشر سنوات بالتمام والكمال فتحت كتاب «بغية الوعاة» للسيوطي لأبحث عن ترجمة لأحد النحويين فإذا به يذكر: وكان له كتاب اسمه كذا. وفي الأخير من هذه المخطوطة كتب الناسخ على سبيل تقييد الختام وليس كما يقول المحققون: حرد المتن، هذا غلط، ليس هناك حرد المتن، هناك تقييد الختام. من أين جاء بعضهم بكلمة حرد المتن، لا أدري، قسم منهم قالوا: جاءت من «المُعَرَّبِ» للجَواليقي، وقد رجعت إلى المُعرب وقرأته حرفا حرفا ولم أجد له أثرا. وأنا أخذت المعنى العام للكلمة الأوروبية «colophone» فاستعملت تقييد الختام.
وفي تقييد الختام لهذه المخطوطة -وهي مخطوطة فريدة- وجدت فيه: وقد انتهينا من كتابته في سنة كذا كذا… وسميناه «الغُرَّة».
وهذا الكتاب هو شرح لكتاب سيبويه، ولكن الشرح كان قليلا، وقد أدخل فيه كثيرا من أخبار الفُرْس، ومن طبقات الشعراء العرب، ومن عهد حكيم الفرس «بزرجمهر» كاملا، وقطعا كبيرة من كليلة ودمنة، وكثيرا من الحكايات. فتبين لي أن الكتاب ليس كتابا في النحو، وإنما هو كتاب في الأدب، والنحوُ جزء منه».
وبحديث الدكتور قاسم السامرائي خُتم هذا المجلس الذي ضم جمعا من المحققين والأساتذة الجامعيين والباحثين من المركز وخارجه، كان موضوعُه كتابَ «ناصر الدين على القوم الكافرين»، وبعضَ جوانب الأسرى في الديار الأوروبية في العصور الوسطى، وبعض قضايا التحقيق وبَعْثِ التراث من مَرقده، يتخلل ذلك أحيانا كلامٌ عن بعض الكتب التي نُشرت أو لَمَّا تَزَلْ مخطوطة مما له اتصال بالموضوع.