عبادي: الأحكام الشرعية شرعت كلها لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية
الدار/ خاص
أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء دراسة علمية محكمة للدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، همت تبيان مكانة حقوق الإنسان كمقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.
ولأهمية هذه الدراسة، سنعمل في موقع “الدار” على نشرها في سلسلة حلقات تعميما للفائدة، وشرحا للقول في هذا الموضوع الذي يكتسي راهنية كبيرة في سياقنا المعاصر.
ثالثا: المركبات التشريعية المشَكِّلة لصرح مقصد ضمان حقوق الإنسان
صناعة الإنسان في الإسلام تتغيى إخراج إنسان متحرر، ليس في ضميره أو جسده فحسب، وإنما متحرر أيضا في رأيه، وفي أسلوب تعبيره عنه. فالإنسان في الإسلام يُتغيى أن يكون متحررا من سلطان العباد[4]، وإن جوهر الاستخلاف والأمانة هو القدرة على أداء الواجبات، وانتزاع التمتع بالحقوق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْاَرْضِ، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ اَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ (النساء: 96). وقال سبحانه: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: 74).
وقد استنبط الإمام مالك من هذه الآية أن براءة الذمة بخصوص المستضعفبن، معقودة بالنصر بالبدن، إن كان العدد يحتمل، وإلا فلا سبيل إلا ببذل جميع الأموال.
قال تعالى لوما للذين ينشِّئون بناتهم تنشئة تعجزهن عن المطالبة بحقوقهن، وبعد ذلك تظل وجوههم مسودة وهم كظيمون إذا بشروا بالأنثى ﴿وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مُسودًّا وهو كظيم. اَوَ مَنْ يَّنشَؤُا في الحلية وهو في الخصام غير مبين﴾ (الزخرف: 16-17).
ويمكن رصد عدد من المركبات التشريعية المشَكِّلة لصرح مقصد ضمان حقوق الإنسان:
الحفظ
ونقصد به حفظ الحقوق والمصالح الضرورية التي بها تتحصل السعادة في العاجل والآجل، وهذا الحفظ يكون بأحد أمرين: الأول؛ من جانب الوجود؛ وذلك بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، والآخر: من جانب العدم؛ وذلك بما يدرأ الخلل الواقع أو المتوقع فيها.
حفظ الدين: وذلك من خلال:
ـ التشريع وتوفير أماكن العبادة المرعية، وتنظيم المساجد والقيمين عليها، وتنظيم الزكاة والصيام والحج، وتنظيم الوقف وحمايته؛
ـ التربية السليمة والممنهجة؛
ـ حماية وتيسير وتوطين القيم المعنوية والروحية للدين؛
ـ حرية التدين وعدم الإكراه؛
ـ تقنين وهيكلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتجلية شروطه وموانعه، ومناهجه وعقوباته، وزجر من يترامون بغير حق ولا مستحق للقيام به؛
ـ التشجيع على الاجتهاد الكفء.
حفظ النفس وذلك عبر:
ـ ضمان الحق في الحياة؛
ـ احترام التشريعات المحرِّمة للقتل والأذى؛
ـ الحماية من العدوان: وهو ما يظهر جليا في حد الحرابة؛
ـ الحماية من التعذيب، والحماية من الإخافة والترويع[6]؛
ـ حماية البيئة (مناخيا ونباتيا وحيوانيا)؛
ـ ضمان حق العيش، والصحة، والحركة، والتنقل مع الحماية من الاتجار بالبشر؛
ـ الاستثمار في الأمن العام والدفاع الوطني، وأمن الدولة.
حفظ العرض
وذلك من خلال حفظ قسميه:
أ. الكرامة، عبر:
ـ تحريم القذف والرمي؛
ـ رعاية وحماية كرامة وسمعة الإنسان الفرد والمجتمع، بالتنشئة على الكرامة، وزرع قيم عدم الاعتداء عليها؛
ـ حماية الحق في الخصوصية وعدم الاجتراء عليها وإن قامت حولها شكوك (مثال عمر حين اقتحم على من بلغه أنه يشرب الخمر فزُجِر وقبِل الزجر وانصرف[8])؛
ـ الحيلولة دون الاستعمال غير المشروع للسلطة، للمساس بكرامة الفرد أو الأسرة أو الجماعة أو المنظمة؛
ب. النسل والأسرة، عبر:
ـ ضمان أن يكون التناسل في إطار الزواج، حيث المسؤولية، وحفظ الأنساب، وإمكان تلقي الرعاية والدعم المنظمين والمنضبطين من الدولة، وكافة الجهات المختصة؛
ـ حماية الأسرة ورعايتها وتوفير حاجياتها الأساسية؛ غذائيا، وإيوائيا، وصحيا، وتربويا، وقيميا؛
ـ رعاية الطفولة والنشء (أيتام، ذوي الاحتياجات الخاصة)؛
ـ رعاية الشيخوخة؛
ـ الحرص على توطين المساواة بين الرجال والنساء، حتى يضطلع كل بمسؤوليته لحفظ الأسرة وتنميتها.
حفظ العقل
ـ تحريم الشرك، والخرافة، والسحر، والطيرة، والمخدرات، والمسكرات، والمفترات التي تؤدي إلى مختلف أضرب الإدمان الضارة بالعقل وبالفرد وبالمجتمع؛
ـ إشاعة الموضوعية في التمثل والتفكير، وإشاعة رؤية علمية موضوعية للذات والموضوع والعالم، وذلك من خلال السهر على أن تضطلع نظم التربية والتكوين الإلزامية في المدرسة، والتطوعية في المسجد والإعلام، ووسائل الاتصال، بذلك دون السقوط في التقنين الدولاني الحاد من الحريات المشروعة؛
ـ إشاعة العلوم والمنتوجات الثقافية المغذية للعقل؛
ـ ضمان الحقوق الثقافية واللغوية والكَلغْرافية؛
ـ تشجيع وحماية البحث العلمي والتكنولوجي؛
ـ ضمان الولوج إلى المعلومة؛
ـ السعي إلى بناء مجتمع المعرفة؛
ـ ضمان وحماية حرية التعبير، في حماية للفرد والمجتمع من الظلم بهذا الصدد، من القذف والرمي غير المشروعين، مما تكون له آثار على ضياع مصالح الفرد والجماعة مادية كانت هذه المظالم أم معنوية[9].
حفظ المال
ـ تحريم السرقة؛
ـ حماية الملكية العامة والملكية الخاصة (مادية كانت أم فكرية أم اختراعية أم تجارية أم صناعية، أم مهنية)؛
ـ سلامة واستقرار التبادل التجاري؛
ـ حماية المستهلك من أن ينفق ماله فيما يضره أو يضر غيره؛
ـ حماية حقوق العمال (أجورا وحسن معاملة) سواء كانوا أبناء البلد أو من الوافدين؛
ـ منع الربح غير المشروع، ومنع الاستغلال بسائر أنواعه وأشكاله (ربا، ميسر، رشوة…)؛
ـ إشراف الدولة على التنمية المستدامة اقتصاديا وبشريا؛
ـ حماية السوق من المضاربات التي تؤدي إلى غلاء الأثمان غير المشروع.
هذه هي المصالح الكلية التي جاءت الشريعة الإسلامية لتأمينها بأن نصّت على كل منها، وبينت أهميتها، وخطورتها ومكانتها، في تحقيق السعادة للإنسان، ثم كلّفت بالأحكام الوظيفية لضمان تحقيقها.
ويدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل على أن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح.
ومعلوم أن ضمان الحقوق للإنسان، من أعظم الأمور التي تحصل بها سعادته.