الناس فالناس والسي بليكي فمشيط الراس
الدار / افتتاحية
في فرنسا بدأت الماكينة القضائية التي لا تكل عن مطاردة الفساد والمفسدين، في فتح التحقيقات في ملفات تدبير وإدارة أزمة فيروس كورونا. فقد أعلنت وزارة الصحة الفرنسية أمس الخميس في إطار هذه التحقيقات عن تنفيذ عمليات تفتيش في مكتب ومنزل وزير الصحة الحالي أوليفييه فيران ورئيس الوزراء السابق إدوار فيليب ووزيرة الصحة السابقة آنييس بوزان والمتحدثة السابقة باسم الحكومة سيبت ندياي. وجاءت عمليات التفتيش هذه بعد الشكاية التي رفعت في السابع من يوليوز الماضي ضد عدد من مسؤولي الحكومة الفرنسية بتهمة “الامتناع عن مكافحة كارثة” أمام محكمة عدل الجمهورية، الوحيدة التي لديها صلاحيات لمحاكمة أعضاء في الحكومة خلال توليهم مهامهم.
وبلغ عدد الشكايات المرفوعة ضد جهات حكومية أكثر من تسعين شكاية تتهمها بالتقاعس عن اتخاذ مقاربة استباقية للتصدي لجائحة فيروس كورونا. لا يتعلق الأمر إذا بمتابعة ملفات فساد أو اختلاس أو صفقات مغشوشة أو متلاعب بها، وإنما بقضايا تتعلق بالإهمال وعدم أداء الواجب، لحماية المواطنين من أخطار الإصابة بهذا الوباء الفتاك. وجاءت جل الشكايات من الجسم الطبي الذي كان أكثر الهيئات المهنية تأثرا بما حدث وفهما لما يجري من حوله. وينزل هذا الخبر على رؤوسنا في المغرب ونحن منغمسون في قلب نقاش بيزنطي تافه يحاول فيه بعض مستفيدي السياسة والمناصب والمسؤوليات الدفاع عن الريع السياسي الذي يكتسبونه من خلال الحفاظ على معاشاتهم وامتيازاتهم التي يخولها لهم انتخابهم كبرلمانيين.
لقد أهدرت الطبقة السياسية والحكومة والبرلمان والفيسبوكيون وعموم المواطنين طاقة هائلة هذه الأيام في مناقشة تصريحات السيد “بيليكي” الذي خرج علينا ببيان قوي اللهجة يتحدى فيه فقر المغاربة ومعاناتهم وبطالتهم والأزمة التي يغرقون فيها للدفاع عن “حقوق” أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها متجاوزة وقروسطية. وبدلا من أن يفتح البيليكي وإخوانه نقاشا حول تدبير جائحة فيروس كورونا في المغرب، ومواطن الفشل والثغرات التي اعترتها وتحديد المسؤوليات فيما وصلنا إليه اليوم من حالة وبائية متفشية، نجد أنفسنا اليوم مضطرين إلى استنزاف المزيد من الوقت والجهد والطاقة في قضايا كان من المفترض أن تكون محسومة قبل سنوات طويلة، منذ أن أفلس صندوق المعاشات الذي ينهل منه البرلمانيون ريعهم السياسي بكل نبل واعتزاز.
هل نتصور في بلادنا اليوم أن تتحرك قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة في مساءلة وزارة الصحة مثلا عن طبيعة الصفقات التي تم عقدها لتزويد المغرب بملايير السنتيمات من المواد الطبية والتجهيزات بشكل تفاوضي مباشر دون المرور عبر روتين وإجراءات إطلاق طلبات العروض؟ كان من الأولى وقد مضى اليوم على بداية الجائحة أكثر من سبعة أشهر أن نفتح نقاشا عموميا حول مستوى إدارة الأزمات المشابهة، وحول أداء الحكومة في مجال معالجة التداعيات الاقتصادية، والمطالبة بالمزيد من الشفافية في تدبير الموارد الاستثنائية التي تمت تعبئتها، لنعرف مثلا كيف تم صرف الملايير التي أودعت في صندوق تدبير جائحة كورونا، وتقييم البروتوكولات الطبية التي وضعتها وزارة الصحة في مواجهة الوباء.
هناك عشرات القضايا الحساسة والمصيرية التي يتعين على السيد بيليكي وأقرانه أن يناقشوها ويعيروها الاهتمام المطلوب في الظرفية الحالية التي تمر بها البلاد. بل إنه من المخزي أن يتحدث مسؤول عن فلس واحد من امتيازاته مهما قل أو صغر، في ظل أزمة اقتصادية وصحية غير مسبوقة، وضعت مئات الآلاف من المغاربة البسطاء تحت خط الفقر والهشاشة. ولا نجد لما يحدث اليوم من جدل خارج السياق، إلا ما يعبر عنه المثل المغربي الدارج “الناس فالناس، وبيليكي فمشيط الراس”.