قراءة في كتاب “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة” للدكتور أحمد عبادي (3)
الدار- خاص
نشرت البوابة الالكترونية للرابطة المحمدية للعلماء، قراءة لكتاب “مطارحات حول المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة”، للدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة، وهو ضمن منشورات كلية أصول الدين بتطوان.
وقدم هذه القراءة الدكتور حسان الشهيد، أستاذ التعليم العالي، بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، بمدينة تطوان.
ويسر موقع “الدار” أن يقدم لقرائه هذه القراءة في حلقات، لما تنطوي عليه من عمق فكري، وطرح منهجي لامس فيه الدكتور أحمد عبادي تحديات ورهانات المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة”.
وقد خصص الكاتب مبحثا رابعا لما أسماه بالعولمة والتأرجح الحضاري، حيث يعتبر فيه أن حركة الأمم التي أثبتت قوتها عبر التاريخ حتى اليوم، بني عمرانها الحضاري على قطبين اثنين، وسمهما بإبداعية قرآنية، بقطب التكاثر وقطب الرهبنة، فالأول وهو غرق في العالم؛ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1-2)، وأما الثاني قطب الرهبنة فانطلاقا من قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ (الحديد: 26)، لكن وكما يقول الله عز وجل: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ (الحديد: 27)، لذلك فإن الدافعية في الحضارة الغربية جاءت، إذن، من الانتقال من قطب الرهبنة إلى قطب التكاثر، والآن هم في قطب التكاثر ([18])
وأما الحضارة القرآنية، وإن لم تكن استثناء من حيث المبدأ، “غير أن الذي يسجّل لها، هو أنها اتسمت باتزان بالغ، جعل التأرجح بالنسبة إليها يبقى ضمن حدود لا تتجاوز المائة سنة، وهو قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”([19])، وما ذلك إلا لأن هذه الحضارة القرآنية حضارة الميزان ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 5)”([20]).
إن البعد التكاثري في العقل الغربي، تناسلت عنه أسئلة تكاثرية، تقصد الهيمنة على الوجود ككل، مهما كانت حيثياته وأصوله، ولعل أبرزها؛ “أنا قادر على أن آخذ هذا الشيء، لِمَ لا آخذه إذن؟ أنا قادر على أن أسيطر على شمال إفريقيا،لِمَ لا أسيطر؟”([21]) تلك أسئلة مفاتيح لتطوير شبكة التكاثر لتحقيق المد الحضاري “من خلال تطوير الصنائع، واستحرار البحث العلمي، حيث ظهرت وظيفية الجامعات، مما أدى فاعلية ضاربة”([22]).
لكن المبحث الخامس؛ كان لازما على المؤلف أن يفتح فيه بحثا للنظر في أنواع العولمة، ليبرز أن الاقتصاد ما هو إلا رأس من رؤوس العولمة، بل هي الآكد في تاريخ أبعادها والهيمنة فيها، خصوصا إذا جعلت من الشركات الكبرى عنوانا لها، لذلك يعتبر أن “العولمة الاقتصادية أحد أهم أنواع العولمة، وقد حدثت العولمة الاقتصادية حين قررت مجموعة من المؤسسات الكبرى في دولة الولايات المتحدة الأمريكية أن تبسط سيطرتها، وذلك انطلاقا من السؤال الذي يقول “why not?” (لم …
… إلا الممكن، والممكن يقتضي سرعة البحث حتى تحقيقه، مهما كانت العقبات والنتائج، وهي المعادلة التي تترجم في جملة أسئلة براغماتية بامتياز، لأن “سؤال “why not?” يسبقه سؤال آخر “What if?” كيف لو أخذت هذا الشيء أو ذاك؟ هل أستطيع أخذه؟ “why not?” لم لا أخذه؟ لأن صاحبه سيقاوم، وسيمنعني بمعنى من المعاني، أو بكيفية من الكيفيات، وسأحاول من جهتي أن أحتسب كل الإمكانات حتى أقرر هل آخذ أو لا آخذ. فقد تكون هناك قيم تمنعني، والتي حين تنعدم لا تبقى هناك فرامل أو كوابح لعمليات الاستحواذ فردية كانت أم جماعية”.
وهذا كله يعود بالأساس إلى شبكة من المفاهيم المؤكدة على العرض العولمي الاقتصادي، “بمعنى أن هنا مجموعة من البراديغمات، أو من المفاهيم، أو المركبات المفاهيمية الكامنة وراء هذا الحراك الذي نراه والذي ينبثق من أضرب الأجوبة عن أسئلة “why not?/What if?””([25])، وهو قرار يحيل على الهيمنة والسيطرة، على الأطراف المرجو استيعابها في الزمن المركزي، إذ “القرار الخطير والمحوري الذي اتخذته الحضارات التي أنتجت عولمة، هو قرار توجيه العالم “Control The World”، بل وأحيانا كثيرة: السيطرة على العالم “Master The World(.
لكن في مقابل هذه النزعة الهيمنية التي تنحو منحى الإلغاء الكلي والسالب، بغية التنميط الثقافي الشامل، يعتمل في الوجود الإنساني نموذج آخر، يمكن اعتباره بديلا عنه على الأقل نظريا واعتباريا، وهو الذي يتخذ من التفاهم والتآزر مطلبا، و”هو التعارف، وليس السيطرة. والتعلم المشترك، أي أن تصبح القيم والتجارب، والخبرات مشتركة، وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) وقد يتساءل البعض عن الصلة العضوية بين آية التعارف ومداليلها الحضارية والثقافية، بالهيمنة الاقتصادية أو بتعبير مختصر: “ما علاقة هذا بالعولمة الاقتصادية؟
إن النظر في واجهة العولمة الاقتصادية المعاصرة، من خلال رصد طرقها، وبحث وسائلها وتقفي مسالكها، له من المنافع المنهجية ما لا يخفى على النبيه الحصيف، لكن “هل نحن حلّلنا قواعد اللعبة هذه؟ أم أننا وقّعنا دون غوص في المقاصد على اتفاقيات منظمات التجارة العالمية؟ وهل عندنا من التكوينات في مجتمعاتنا الإسلامية، ما يمكننا فحص هذه البنود والنظر إلى تفاصيلها؟ أم أننا مجرد مؤشّرين مستهلكين؟”
إن الإجابة عن هذه الأسئلة، ستمكننا، على الأقل، من فقه دواليب الامتداد والهيمنة في هذا الكون، ومداخله ومخارجه، لذلك، إذا عرفنا أن الكون تستقطبه عناصر مالية كبرى، يتعذر الاستقلال عنها، أو الانفراد بغيرها تميزا وانعزالا، “إننا بدأنا نرصد تشكّل ثلاثة مناطق كبرى، فيها سيطرة عملات محددة، وهذه المناطق هي:منطقة الدولار، ومنطقة اليورو، ومنطقة الين؛ منطقة الدولار هي المشكّلة من:أمريكا، وكندا، والمكسيك. ومنطقة اليورو الذي تم الاتفاق عليه سنة1999م هي الاتحاد الأوروبي، ثم منطقة الين: اليابان، والصين، ودول جنوب شرق آسيا”([29]).
إن هذا التوصيف الحالي للوضع الاقتصادي، كما تم ترسيمه تحت قهر العولمة، يدفعنا إلى البحث عن طرق عرض العالمية الإسلامية البديلة، المرصودة بالقيم والأخلاق، المفقتر إليها في هذا العالم.
وفي مبحث آخر، سماه الكاتب المجتمعات الإسلامية في ظل سياق العولمة، يجعل الدكتور عبادي العملية التعليمية، أولى حلقات الكبرى المترابطة في بناء العولمة القوية المنافسة، “لأن التعليم هو الذي تمر عبره الخبرات التصورية، والقيمية، ولكن أيضا الدربات الوظيفية، التي يراد بها تحقيق الاستمرارية لمفهوم القومية، والقوم هم الذين يقوم بعضهم بحوائج بعض”([30])؛ لأنه من دون تعليم قوي، ومنافس يتعذر الانتقال من الوجود العيني المشخص إلى الوجود الذهني، “وهل يتصور أن ندرك الوجود العيني المشخص، من الناحية الفيزيائية إذا لم تكن عندنا أضرب استقصاء ميدانية، ومختبرات مجهزة، لكي نتحاور فيها مع الكون من هذه الزاوية الفيزيائية، أو من الزاوية البيولوجية، أو من الزاوية الكيميائية، أو من الزاوية الجغرافية؟ هل عندنا مركز للأبحاث الجغرافية؟” ([31]) ليختم المبحث بسؤال محوري مؤرق بقوله “وهنا يحق لنا طرح السؤال الآتي: هل تعليمنا يبني قدرات الناشئة على أن يتم الانتقال بكيفية أمينة سليمة دقيقة بين هذه المراتب، أم ليس كذلك؟”.