المغرب يجني ثمار استراتيجية حقوقية جريئة ويرسخ مبادئها الكونية

الدار/ افتتاحية
لم يأت انتخاب المغرب عضوا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للفترة 2023 – 2025 من فراغ أو باعتباره نتاجا لتداول روتيني على مقاعد المجلس بين الدول الأعضاء. هذا الانتخاب هو اعتراف مستحق من طرف هيئة الأمم المتحدة ومؤسستها الحقوقية المرموقة التي يمثلها المجلس بالتقدم الكبير الذي حققته بلادنا على مستوى إرساء ممارسات وثقافة حقوق الإنسان على مختلف الأصعدة والمستويات. والأغلبية الساحقة التي حصده المغرب خلال التصويت على عضويته ومنذ الدور الأول من عمليات الانتخاب تؤكد أيضا أن لبلادنا ما تفخر وتعتز به في صحيفتها الحقوقية بعد أن أصبحت نموذجا يحتذى في العالم العربي وإفريقيا فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية والانتقال الحقوقي الهادئ والمثمر.
المغرب حصل على ولايته الثالثة في مجلس حقوق الإنسان بجنيف لأنه استطاع خلال العقدين المنصرمين أن يخطّ لنفسه مسارا إصلاحيا مثاليا كان قوامه الأساسي هو الحوار والتفاهم بين مختلف الفرقاء، بشكل أفضى بسلاسة إلى تصفية تركة الماضي وترسيخ القطيعة مع سلوكات انتهاكات الماضي وجبر ضرر الضحايا من الأفراد والجهات، ثم وضع كل الضمانات الدستورية والقانونية لعدم تكرار ما جرى. في هذا السياق تمثل تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة وتقريرها الختامي نموذجا يدرّس عبر مختلف أرجاء العالم في ميدان العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحات التاريخية التي تخرج بلدا من مرحلة سياسية إلى أخرى بأقل كلفة ممكنة مع تثبيت دعائم الدولة الديمقراطية التي تضع حقوق الإنسان على رأس أولوياتها.
الاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب ممارسات لا تزال منتشرة في بعض دول الجوار، بل هي تمثل بالنسبة لبعض الأنظمة السياسية سياسة ممنهجة ومقرّرة لتدبير الشأن الأمني وتثبيت أسس الاستقرار، لكنها بالنسبة لبلادنا أضحت جزء من ذكريات الماضي البعيد عندما كان المغرب يعيش على إيقاع سنوات الرصاص الملتهبة. في العام الجاري على سبيل المثال بلغت ادعاءات التعرّض للتعذيب التي قدمت بخصوصها شكاوى للمصالح القضائية أدنى مستوياتها في التاريخ، إذ لم تتجاوز سبعة ادعاءات غير مؤكدة. وفي الوقت نفسه الذي يتم انتخاب المغرب في مجلس حقوق الإنسان تفتح بلادنا نقاشات عمومية حول العديد من القضايا الحقوقية من أجل تعميق المكتسبات المسجلة في هذا السياق.
هناك نقاش مفتوح حول ضرورة تعديل مدونة الأسرة من أجل ترسيخ أسس مساواة كاملة بين المرأة والرجل في منظومتنا القانونية والقضائية. نقاشات كهذه تمثل بالنسبة لعدد من المجتمعات طابوهات لا يمكن فتحها حتى اليوم. كما يتناول المجتمع الحقوقي والمدني المغربي بكل جرأة مختلف المطالب المرفوعة بإشراف حتى من الهيئات الرسمية الوطنية. على سبيل المثال يطرح المجلس الوطني لحقوق الإنسان بتزامن مع هذا الانتخاب موضوع عقوبة الإعدام ومستقبلها في القانون الجنائي، ويتم تبادل مختلف وجهات النظر المؤيدة أو المعارضة لإلغاء هذه العقوبة دون أدنى مركب نقص. ولعلّ هذه الروح الحوارية المفتوحة التي تميز بلادنا هي من أهم الركائز التي ساهمت في إنجاح التجربة الحقوقية وسارت بها بنفَس تقدّمي عاما بعد عام.
إذا احتلّ المغرب إذن مقعد العضوية في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة فإنه يحصل على ذلك عن جدارة واستحقاق، وهو بذلك يحصد ثمار المقاربة الحقوقية الجريئة التي أطلقها الملك محمد السادس منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين. هذا يعني أن ما يعيش فيه المغاربة اليوم من بيئة حقوقية تتوفر فيها الكثير من شروط وضمانات المساواة والعدالة وتنتفي فيها إكراهات القهر الأمني والقمع السياسي لم يكن بمحض الصدفة أو التطور الطبيعي، بل جاء نتيجة استراتيجية ملكية راهنت على تعزيز مكاسب التعددية والمؤسسات وفسح المجال أمام تعزيز جيل جديد من حقوق الإنسان التي لم يكن المغاربة يتمتعون بها قبيل الألفية الثالثة.