الجيل الرقمي المغربي، قراءة سوسيولوجية في تحولات الحراك الإفتراضي وإستشراف مآلاته المستقبلية.
الجيل الرقمي المغربي، قراءة سوسيولوجية في تحولات الحراك الإفتراضي وإستشراف مآلاته المستقبلية.

لم يعد المشهد الإجتماعي المغربي بمنأى عن التحولات الرقمية العميقة التي تعيد تشكيل الوعي الجماعي في العصر الراهن. فقد برز جيل جديد ، «جيل Z» أو «GenZ 212» ، ولد من رحم الفضاء الإفتراضي، ليعبر عن وعي متنام ومطالب بالعدالة الإجتماعية والكرامة، مستعملا التكنولوجيا كوسيلة للتعبئة والمساءلة والمطالبة بالإصلاح.إحتجاجات إنطلقت بمطالب إجتماعية صادقة، غير أنها سرعان ما إكتسبت أبعاد سياسية معقدة، خصوصا بعد ارتباط شعار المطالب المشروعة من حق في الصحة والتعليم والشغل، بشعار مقاطعة كأس أمم إفريقيا 2025.
إن كل متتبع ومهتم بظاهرة الاحتجاج بالفضاء العام، مدعو اليوم إلى الوقوف على تلك التأويلات السياسية التي تعكس حجم التوتر بين طموح الإصلاح وفتنة التأثير الخارجي. لقد تحول الفضاء الرقمي إلى ساحة تجاذب بين وعي وطني ناضج يسعى للتغيير الإيجابي، وتيارات مريبة تحاول إستثمار هشاشة الثقة لإرباك صورة المغرب في لحظة رمزية تشهد صعوده القاري وتميزه العالمي.
ويرى الباحث الفرنسي بيير ليفي أن “الفضاء السيبراني لم يعد مجرد أداة تواصل، بل فضاء لإنتاج المعنى والسلطة”، وهو ما يفسر تحول الشبكات الإجتماعية إلى مجال لصناعة الرأي العام وتوجيه الوعي الجماعي. كما يؤكد الباحث المغربي محمد الشرقاوي أن “الإحتجاجات الرقمية تعبر عن فعل جماعي جديد غير مؤطر، تغذيه سرعة التفاعل لا عمق التنظيم”، مما يجعل حراك GenZ212 ظاهرة سائلة تتميز بانتشارٍ رمزي سريع يفتقد القيادة والهيكلة المؤسسية.
وفي خضم هذا الزخم، جاء إنسحاب ممثلي الشباب الأمازيغي من الحركة كمنعطف فارق في مسار الوعي الرقمي الوطني، لينظاف إليه اليوم السبت 18 أكتوبر ، إنسحاب شباب جهة الشرق بسبب إنحراف الدعوة إلى الإحتجاجات عن مبادئها الأصلية وغياب الشفافية في تسييرها، واتهام قيادتها بعقد تحالفات غامضة وخدمة مصالح غير معلنة، مع إبتعادها عن القضايا الإجتماعية الجوهرية كالصحة والتعليم، الأمر الذي دفع إلى حل اللجان المحلية ووقف الأنشطة بشكل نهائي، بعدما رفضوا أي توظيف خارجي أو إيديولوجية للنضال الإجتماعي، مؤكدين إنحيازهم الصريح للوحدة الوطنية كإطار وحيد للإصلاح. وهو موقف يعكس، كما قال عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري، “بحث الجيل الجديد عن معنى للإنتماء داخل الدولة لا ضدها”. فالحركة الأمازيغية الرقمية أعادت التذكير بروح خطاب أجدير الذي جعل من الأمازيغية ركيزة للوحدة، لا مدخلا للتفرقة، وأسقطت وهم الربط بين الهوية والإرتماء في أجندات خارجية لا زالت حبسة أيديولوجية بائدة.
لقد أسس هذين الموقفين العقلانيين، لمرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة “الجيل الوطني الثالث”، جيل نقدي لكنه مسؤول ، المؤمن بأن الإصلاح لا يمر عبر الفوضى بل عبر المشاركة الواعي، وأن الدولة ليست خصم بل فضاء للحوار وإعادة بناء الثقة.
لقد حذر عالم الإجتماع الإسباني مانويل كاستيلز من أن “المجتمعات التي تفشل في تحويل التواصل الرقمي إلى فعل مؤسسي منظم، تصبح رهينة للفوضى المعلوماتية”. وهذا ما يجعل المغرب اليوم أمام مفترق حاسم، فإما أن يمتص ويحويل الغضب الرقمي إلى طاقة إصلاحية مستدامة، أو تركه ينزلق إلى فوضى رمزية تستغل من الخارج لتأزيم الداخل.
من هنا وحسب رأينا المتواضع، تبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة للدولة المغربية تقوم على الذكاء المؤسسي والإنصات للشباب بإعتبارهم شركاء في الوعي لا خصوم ، وإلى تعزيز التربية على المواطنة الرقمية، وتحصين الفضاء السيبراني من الإختراق دون المس بحرية الرأي و التعبير المحمية دستوريا، والعمل الجاد على إشراك الجامعات ومراكز البحث العلمي في فهم ديناميات الرأي العام الإفتراضي وتطوره السريع.
ختاما، يعيش المغرب اليوم مخاض وعي رقمي وطني جديد، يقوده جيل يؤمن بأن الإصلاح لا يتحقق بالتصادم، بل ببناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وبجعل الرقمنة أداة للنهضة لا للفوضى. فالوطن في زمن التحول الرقمي لا يصان بالمقاربة الأمنية لوحدها، بل بمعالجة مواطن الخلل وإرجاع للثقة للشباب في مؤسساتهم السياسية وعلى رأسها الأحزاب التي لأسف لم تستوعب بعد الكثير من الدروس، وبمنح الفرصة لجيل الشباب بأن يتحمل المسؤولية وأن يحسد قيم الديمقراطية بالفعل وليس بمجرد الخطابات.
د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.