دبلوماسية التوازن الإستراتيجي للمملكة المغربية و صعود الشرعية الأممية في زمن التحولات الدولية.

د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.
في عالم مضطرب تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه المصالح وتتهاوى فيه قواعد النظام الدولي التقليدي، يبرز المغرب كفاعل إستثنائي إستطاع أن يصوغ لنفسه موقعا متميزا في خريطة السياسة العالمية، من خلال دبلوماسية متزنة تجمع بين الحكمة الملكية وبعد النظر الإستراتيجي، وبين الواقعية السياسية والإلتزام المبدئي بثوابت القانون الدولي. لقد أثبتت المملكة المغربية، عبر مسار دبلوماسي طويل ومتراكم، أن الاعتدال والحياد النشط في العلاقات الدولية، هو تعبير عن عمق في الفهم ونضج في إدارة التوازنات. ففي زمن تستقطب فيه القوى الكبرى العالم نحو محاور متصارعة، إختار المغرب أن يكون صوت العقل وبوصلة التوازن، مستثمرا شرعيته التاريخية ومصداقيته الأممية ليحول حضوره في المنابر الدولية من مجرد تمثيل رمزي إلى تأثير فعلي في صياغة المواقف والمقاربات. وهكذا أضحى حضوره داخل الأمم المتحدة والتجمعات الإقليمية تعبير عن قوة ناعمة متجذرة في الثقة والإحترام، وعن نموذج دبلوماسي مغربي بات يفرض نفسه كخيار رصين في إدارة النزاعات وصناعة الإستقرار الإقليمي والدولي.
فمنذ أن طرح المغرب مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء سنة 2007، وهو يكرس مسار دبلوماسي يقوم على الواقعية والبراغماتية الهادفة إلى الإستقرار الإقاليمي، لا إلى تأجيج النزاعات المفتعلة. لقد أضحت مقاربة المملكة مرجع يحتذى به في تسوية النزاعات الإقليمية والدولية ، بشهادة عدد من القادة والدبلوماسيين، فقد صرح وزير الخارجية الإسباني الأسبق خوسيه مانويل غارسيا مارغايو بأن : «المغرب يمثل اليوم في إفريقيا ما مثلته أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: نموذج في بناء الإستقرار من بوابة التعاون الإقليمي».
نعم ، لقد راكمت المملكة المغربية تجربة دبلوماسية فريدة تزاوج بين الواقعية السياسية والرمزية الحضارية. فالمغرب لا يتحرك من منطلق الإصطفاف الأعمى، بل من منطلق إدراك عميق لمفهوم الحياد النشط، وهو ما أكسبه مصداقية عالية في الأزمات الدولية الحساسة، كالأزمة الروسية الأوكرانية، حيث تبنى موقف متوازن يحترم القانون الدولي دون الإنخراط في معسكرات المواجهة، مما جعل العديد من العواصم تعتبره “وسيط ذا ثقة” يمكنه تقريب وجهات النظر في مرحلة ما بعد الصراع. وقد عبر الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون عن تقديره لهذا الدور عندما قال في لقاء خاص سنة 2016: «المغرب بلد قادر على إضفاء الحكمة في النقاشات التي يغيب فيها التعقل، لأن دبلوماسيته تقوم على الإنصات لا على الإملاء». هذا الثناء لم يكن مجاملة بروتوكولية، بل تعبير عن تراكم تاريخي في العمل الأممي، حيث ظل المغرب منذ الستينيات مشارك فعال في عمليات حفظ السلام في الكونغو ومالي وإفريقيا الوسطى، ومبادر إلى تقديم الدعم الإنساني للدول المتضررة من الأزمات، مما عزز رصيده الأخلاقي في المجتمع الدولي.
وعلى الصعيد الإفريقي، لم يعد المغرب مجرد عضو في الاتحاد الإفريقي، بل أصبح قاطرة تنموية وروحية وإقتصادية توجه السياسات العمومية في القارة نحو الإنفتاح والإستدامة، فمشاريع الربط الطاقي بين نيجيريا والمغرب، والمبادرات الدينية لتكوين الأئمة الأفارقة، والمساعدات الإنسانية والطبية الموجهة لدول الساحل، كلها أدوات قوة ناعمة تمكن المملكة من ترسيخ نفوذ إستراتيجي يقوم على الإحترام المتبادل لا على الوصاية.
كما أن المملكة أحسنت إدارة علاقاتها مع القوى الكبرى بذكاء نادر، إذ نجحت في الحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، دون أن تغلق باب الشراكة مع روسيا والصين. هذه المرونة في هندسة التوازنات جعلت من المغرب نقطة التقاء للمصالح الدولية بدل أن يكون ساحة لتقاطعها. وقد عبر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم إدوارد غابرييل عن هذه المكانة بقوله: «المغرب هو الدولة العربية والإفريقية الوحيدة التي تستطيع أن تتحدث مع الجميع دون أن تحسب على أحد».
إن الرهان الدولي الذي يخوضه المغرب اليوم، سواء داخل الأمم المتحدة أو في التكتلات القارية، ليس رهان موقع شكلي، بل رهان على نموذج دولة إستطاعت أن توفق بين الشرعية التاريخية والفعالية الواقعية. فالنجاح الدبلوماسي المغربي لا يقوم فقط على الحضور السياسي، بل على فلسفة متكاملة ترى في التنمية والإستقرار وجهين لعملة واحدة، وتدرك أن القوة الحقيقية في عالم اليوم لا تقاس بعدد الحلفاء بل بنوعية العلاقات ومستوى الثقة.
ويمكن القول إن المغرب يسير بثبات نحو ترسيخ موقعه كقوة توازن إقليمي ودولي. فنجاحه في حسم ملف الصحراء المغربية من خلال قرار مجلس الأمن عدد 2797 باقرار خيار الحكم الذاتي تحت السيادةالكاملة للمملكة، وتوسيع شراكاته جنوب جنوب، وتأكيده المستمر على دعم حل الدولتين في الشرق الأوسط، كلها مؤشرات على نضج دبلوماسي يصنع السياسة و لا يكتفي بالتفاعل معها فقط.
ولعل أكثر ما يميز التجربة المغربية هو إدراكها العميق لتحولات الزمن الدولي الجديد، حيث لم تعد القوة تبنى على السلاح، بل على القدرة على الإقناع والتأثير وصناعة المبادرة. ولهذا فإن الرهان الأممي المقبل، أيا كانت طبيعته، لن يكون اختبار لمكانة المغرب، بل اعتراف بدور بات قائما فعلا في ميزان العلاقات الدولية.
ختاما، المغرب اليوم لا يبحث عن موقع في الخارطة الدولية، لأنه أصبح هو من يرسم بعض ملامحها الدبلوماسية الجديدة، من إفريقيا إلى الشرق الأوسط، ومن المتوسط إلى الأطلسي، مستندا إلى تاريخ مجيد، وحكمة ملك متبصر، ودبلوماسية تتقن فن الموازنة بين الطموح والواقعية، و بين المبادئ والمصالح، وبين الثبات على القيم والقدرة على التكيف مع عالم سريع التحول.
د/ الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي.






