لمحات من تاريخ الأندلس.. الحلقة الخامسة
الدار/ إعداد وترجمة حديفة الحجام
المجتمع الأندلسي ولغته
تُعرف المجموعات الاجتماعية الأندلسية انطلاقا من أصلها العرقي وانتمائها العقدي الديني، وقد تداخل هذان العنصران وكونا المجتمع الأندلسي المتنوع. وعلاقة بدور المرأة داخل الكيان الأندلسي، من الواجب الإشادة بأنها كان تتمتع بقسط وافر من الحرية مقارنة بنساء باقي المجتمعات الشرقية، وذلك راجع إلى طبيعة الأمازيغ (العرق المهيمن) وبالنظر أيضا إلى العناصر التي جعلت منه مجتمعا متعدد الثقافات والأديان والألسن.
العرب
شكل العرب المسلمون منذ البداية طبقة حاكمة أقلية طالما تنازعت الحكم مع الأغلبية الأمازيغية وطبقة المولدين.
الأمازيغ
انقسم الأمازيغ إلى مجموعتين متباينتين تبعا لزمن دخولهما إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. أما المجموعة الأولى فوصلت خلال فترة حكم الأمويين، ودخلت شبه الجزيرة على شكل أمواج انطلاقا من سنة 711. اعتنقوا الإسلام وأتقنوا اللسان العربي؛ أما المجموعة الثانية والتي شكلت في أغلبيتها الجيش نهاية الخلافة (القرن العاشر)، فكانت السلطة الحاكمة في قرطبة تجندهم بشكل كبير. وخرج من المجموعتين الأوليين قادة على مختلف ممالك الطوائف.
وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، انتقلت السلطة السياسية إلى يد المجموعات الأمازيغية كالمرابطين والموحدين في مراكش العاصمة، وهو ما جر معه تدفق أمواج جديدة من الأمازيغ إلى الأندلس.
المستعربون
كانوا أكثرية في البداية، وهم النصارى الذين كان المسلمون يطلقون عليهم لقب المستعربين، ولم يكونوا يختلفون في شيء عن نظرائهم المسلمين، حيث كانوا يشبهونه في طريقة الكلام واللباس والعيش، أما الاختلاف الوحيد فكان اختلافا في المعتقد.
وسمح احترام الحرية الدينية المنصوص عليه في القرآن للمستعربين بالتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي الداخلي، حيث كانوا يتبعون إداريا لتجمعات ذات أصل قوطي غربي، وكان القضاء يخضع لأحكامهم الخاصة. ومكنت روح التسامح هذه كلا من المستعربين واليهود من بلوغ مناصب رفيعة في الدبلوماسية والجيش والحكومة الإسلامية دونما قيود كثيرة. ويظهر هذا التعايش أكثر من خلال شيوع الهندسة المعمارية ذات اللمسة "المستعربة"؛ كما تأثر العمران المستعرب أيضا بالهندسة الإسلامية ووصل تأثيره إلى الكنائس في بلاد الأندلس.
ويظهر التأثير الإسلامي على النصارى أكثر من خلال رسالة مؤرخة سنة 1311 تحصي السكان المسلمين في غرناطة في تلك المرحلة في 200.000 نسمة، منهم خمسمائة شخص الأقل كانوا ينحدرون من أسر نصرانية اعتنقت الإسلام.
وغالبا ما كان النصارى يصرحون برغبتهم في الاحتكام إلى نظام الحكم الإسلامي على النظام النصراني. ويقول مؤلف مسيحي في زمن عبد الرحمن الثاني كان يسمى آلفارو في مخطوط مجهول ما نصه: "يجد من هم على نفس ديانتي سعادة كبيرة في قراءة الأشعار والروايات العربية؛ كما أنهم يعكفون على دراسة مؤلفات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين ليس بغرض دحضها، وإنما بقصد اكتساب طريقة إلقاء عربية سليمة وراقية. آه ثم آه! كل شباب النصارى المتميزين بمواهبهم لا يعرفون لغة أخرى غير لغة العرب وآدابهم لدرجة أنهم يدفعون أموالا طائلة لتشييد المكتبات الكبيرة ويتحدثون في كل مكان عن روعة ذلك الأدب. حدثهم في المقابل من ذلك عن كتب النصارى، وسيجيبونك بنوع من الازدراء أنها لا تستحق ولو مجرد الاهتمام بها. ألا يا ليت شعري لقد نسي النصارى حتى لغتهم، وبالكاد تجد بين ألف منا شخصا واحدا يعرف كتابة رسالة إلى صديقه باللغة اللاتينية؛ أما إذا تعلق بالأمر بالكتابة بالعربية، فستجد جمعا غفيرا من الناس يتحدثون بهذه اللغة بمنتهى الأناقة، من وجهة النظر الفنية، تفوق أحيانا أناقة العرب أنفسهم".
المولدون
انطلاقا من القرن الثامن، اعتنق الإسلام كثير من الهسبان الرومانيين (كان الرومان يطلقون على شبه الجزيرة الإيبيرية اسم هسبانيا) والقوط الغربيين، فأطُلق عليهم المولدين إن كانوا ثمرة زيجات مختلطة، أما إن اعتنقوا الإسلام عن قناعة شخصية فكانوا يسمون بالمسالِمة. ومع مرور الزمن ازداد عدد أفراد المجموعة الأخيرة وأصبح المستعربون أقلية. وبعد أن تقوت شوكتهم بدأوا هم والأمازيغ بشق طريقهم في المجتمع الأندلسي وطالبوا بمساواتهم مع العرب بالنظر لمجرد كونهم مسلمين.
لغات الأندلس
اشتهر الأندلس أو الجزيرة الإيبيرية إبان الحقبة الإسلامية بظاهرة تعدد لغات التواصل. صحيح أن اللغة الرسمية كانت هي العربية الكلاسيكية، لغة القرآن الكريم والأدب، وأصبحت معممة بفضل مدارس الفيلولوجيا العربية، وكانت مشتركة في عموم دار الإسلام، وقد فرضت لغة رسمية في شبه الجزيرة الإيبيرية بعدما كان القوط الغربيون يتعاملون باللاتينية في أمورهم الإدارية والثقافية، في حين كان السكان يتحدثون لغة مستوحاة، من الرومنسية أطلق عليها الباحثون الأوربيون في القرن التاسع لغة مستعربة. وقد أدى اختلاف اللغات واللهجات التي أتى بها الوافدون الجدد على شبه الجزيرة الإيبيرية إلى خلق لهجة عربية خاصة بشبه الجزيرة أطلق عليها اللغة الهسبانية العربية أو الأندلسية تأثرت كثيرا باللغة الرومنسية.
وقد تعايشت اللهجة العربية الأندلسية واللغة الرومنسية مما أسفر عنه ظهور نوع من الثنائية اللغوية إلى أن اندثرت اللغة "المستعربة" أو تقلص مجال استخدامها، لأن نصارى الأندلس كانوا في القرن الحادي عشر يستعملون أناجيل بالعربية أو يدونون وثائقهم بهذه اللغة.
وكانت تستعمل في الأندلس لغة أخرى هي العبرية، استخدمها اليهود في طقوسهم الدين. ومع بداية القرن العاشر ازدهر ادب عبري بالرغم أن يهود الأندلس كانوا يحسنون التحدث باللسان العربي والرومنسي. وتجدر الإشارة أيضا إلى اللغات الأمازيغية التي حافظ عليها المسلمون المنتمين لهذا العرق والتي استعملوها في التواصل فيما بينهم، ولو أن تأثيرها في اللهجة الأندلسية يكاد ينعدم رغم كونها كان لغة السلالات الإفريقية في القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، المرابطين والموحدين، حيث لم يتركوا أي أثر أدبي.
وكان للغة العربية تأثيرها على اللغات الرومانية في شبه الجزيرة الإيبيرية من قشتالية وبرتغالية وجيلقية وكطالونية، لكن يجب التذكير بأن هذه الاستعارات اللغوية تمت عن طريقة اللهجة الأندلسية وليس عن طريق العربية الكلاسيكية. ونفس الشيء فيما يخص أسماء الأماكن ذات الأصل العربي.