أخبار الدار

ذكرى وفاة ملك في يوم لم يكن كسابقيه من أيام المغرب

بقلم: يونس التايب*

اليوم هو التاسع من شهر ربيع الأول 1440 هـ، وبذلك تكون قد مـرت عشرون سنة على وفاة جـلالـة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه. هي مناسبة للعودة إلى أجـواء ذلك اليوم الاستثنائي الذي لم يكـن كسابقيه من أيـام التاريخ المعاصر للمملكة المغـربية. وهي أيضا مناسبة لاستحضار مناقب الفقيـد، في أبعادها الإنسانية الراقية، لأن من لا يذكـر الأموات ويستحضر مكرُمات وخصال الخير فيهم، لا يمكنه أن يدعي فهـم القيمة الكبرى للأحياء، ولا أن يُقـدر معنى وجودهم بيننا، ولا أن يُدرك الفضل في ذلك. كما سأحاول تناول دلالات ما حملته من شعلة أمـل، تلك المضامين المضيئة الصادقة في حق الشباب المغربي، الواردة في آخر خطب المغفور له، أياما قليلة قبل وفاته رحمه الله.

لم أكن من الأحياء سنة 1961، عندما توفي السلطان محمد الخامس، ولكن ما بقي من صور وفيديوهات حية تؤرخ لذلك اليوم الحزين، وتزكي  ما روته لي والدتي و والدي عن ذلك اليوم المهيب الذي توفي فيه محرر البلاد من نيـر الاستعمـار، وتلك الأمواج الهادرة من النساء والرجال والشباب والأطفال، المنشرين في الشوارع وعلى الأسطح، يبكون بحُـرقـة بالغـة و مـوكب الجنازة، غير المسبوقة، يمر أمامهم. كلها دلائل على أن أبائنا وأجدادنا عاشوا لحظات عصيبة، امتزج فيها ألم فراق أب الأمة، مع غير قليل من الخوف والتوجس الطبيعي لمواطني دولة فتية لم يمر على استقلالها إلا أقل من خمس سنوات، و ورش بناء دولة "ما بعد الاستعمار" كان قد بدء للتو ولم تكتمل أركانه بعد.

بالمقابل كنت حيا أرزق قبل عشرين سنة من اليوم، وكانت فترة عطلة جامعية فيما أتذكر. كانت الأجواء، عادية وكنا نستمتع بشمس صيف جميل في وطن هادئ أنجاه الله، بفضله وكرمه، من سكتة قلبية قاتلـة، باجتماع إرادة و حكمة ملك غيـور،  وقـادة أحزاب وطنية خالصة مغربية الولاء، وشعـب كـريم وناضج ومبايع وحريص على إثبات حضوره الحضاري. نـزل الخبـر وسط ذلك اليوم كالصاعقة على الجميـع، و قضينـا ساعـات ونحـن نتسـائـل بصـدق :هـل حقـا مـات جـلالـة المـلـك الحسن الثاني؟

رفض الكثيـرون تصديق الخبر، معتبرينه من الشائعات "البغيضة" التي ما كان يجب بأي حال مـن الأحـوال استحداثها والتمازح بمثلها. مـرت الدقائق بتثاقل كبير وخانق. ظلت مظاهـر الحياة عادية، وإن كان جليا أن الحركة أخف من الطبيعي في الشـوارع. ثم بـدأت، شيئـا فشيئـا، تنزل سكينـة عجيبـة على كـل ركـن مـن أركان الوطـن، وكـأن أجـواء الـرزء والجنـازة قـد أصابـت كـل بيـت، في كل قرية، وكـل حـي، وكـل مدينـة. كانت الفضاءات تعرف نفس الحركية التي تميز حدوث الجنائز في المغرب عندما يموت أحد الجيران، وينزل الناس إلى أسفل العمارات، يجتمعون مجموعات صغيرة هنا وهنالك، في جنبات الدرب وفي ناصيته، ويبدء التهامس ويتجلى الأسى والحزن، ويبادر الجميع إلى التطوع أيهم سيسبق لنيل فضل إكرام الميت ومواساة أهله والتخفيف عنهم.

ذلك مبعث حبي لتامغرابيت الحقة في أبهى وأحب تجلياتها، تستحضر المبادئ والثوابت وتقدس مقامها، وتمد يـد التضامـن والتـآزر، وتكـره الغـدر والتشفي والانتقـام، وتُعـلي قيـم الخيـر، و تُحب الحياة وتبدع لبناء المستقبل، وتُحيي الأمل باستمرار.

كيف يكون حال المواطنين غير ذلك، و الفقيـد لم يكن رجلا عاديا، إنما كان الرزء في رمز كان ذا حضور قوي ومهيمن، وله كاريـزما خاصة لا ينازع بشأنها أحد، جعلت منه هرما من أهرامات السياسة وقائد دولة محترما من قادة العالم، يلجؤون إليه لطلب الرأي وبحثا عن الحكمة والنصح. وفي حالات عديدة كان يطلب تدخله من أجل حل قضية، أو التوسط في نزاع، أو تقريب وجهات نظر في اختلاف ما، لما تميز به من قدرة كبيرة على نسج علاقات إنسانية قوية مع مخاطبيه، وفرض الاحترام الكبير لشخصه، وبناء علاقات دبلوماسية على أسس متينة دفاعا عن مصالح المغرب، وحرصا على الأشقاء والأصدقاء. ملك اتفـق خصومه قبل أصدقائه ومحبيه، على أن قد اجتمع فيه ما تفرق من خصال وقدرات في ملوك وقـادة الـدول الذيـن جـايـلـوه لمدة قاربت الأربعين سنة.

كان الملك الراحل قوي الشخصية، شديد الذكاء، بحضور ذهني استثنائي، مثقفا وعالما، يُتقـن فـن الخطابة، ويمتلك تقنيات التفاوض ويجيد الحوار السياسي. كان يغضب عندما يتم تجاوز الأعراف والحقوق التاريخية للوطن. كما كان يحنو و يُكرم ويُبدي فرحه كلما تحقق ما يأمُله من خير لشعبه. كان يعشق تاريخ المغرب ويعرف كل صغيرة وكبيرة مما شهدته أرضه، من أحداث وشخوص، خلال أزيد من ألفي سنة ويزيد. كان مواظبا على دراسة تاريخ الشعوب، والإطلاع على إنتاجات كبار الأدباء والمثقفين والمفكرين، حتى أنه كان نادرا ما يغـفـل عن دراسة بيوجرافيا بلغ إلى علم جلالته، أن رئيس دولة أو زعيما سياسيا أصدرها. كما كان طيب الله ثراه حريصا على تتبع العلوم التجريبية والابتكارات، وضبط العلوم الشرعية بدون أن يتردد في مُدارستها مع أهل العلم والاختصاص، من علماء ومحدثيـن، من المغرب ومن العالم الإسلامي، إيمانا منه أن منطلق مسؤولياته كأمير للمؤمنيـن، ومؤتمن على حفظ المجال الديني والأمن الروحي للمغاربة، يُلزمه بأن يغوص في مَعين أصالة هذه الأمة المغربية، وأن يمتلك الحُجة والسند والدليل الشرعي، لكي يتصدى، في بعض الأحيان شخصيا، في حواراته أو خطبه، للمتهافتين وصغار المتعالمين، ولا يترك لهم فرصة إنجاح محاولاتهم بإدراج الدخيل أو المُغرض إلى سكينة مجتمعنا ووضوح مرتكزاتنا الثقافية وعماد إيماننا وديننا السمح الراسخ.

كما كان رحمه الله حريصا على متابعة إنتاجات الفنانين، حتى أنه كان لا يتردد في التدخل إذا ما بدى له رأي، أو حاجة موضوعية إلى توجيه أو تنبيه بشأن كلمة خرجت في غير مقامها، أو شذو ولحن في غير ميزانه. والأمثلة في هذا الباب بالعشرات، و لا حاجة لذكرها. وكان له أيضا اهتمام مباشر بعالم الرياضة بأنواعها، وإن كان معروفا بحبه لركوب الخيل والسباحة والكولف، ومتابعا شغوفا للرياضيين المغاربة، يبادر بالاتصال وتشجيعهم، سواء منهم أبطال ألعاب القوى أو أعضاء المنتخبات الوطنية لكرة القدم. والأمثلة في هذا الباب بالعشرات.

 كنا بحق، قبل عشرين سنة، أمام حدث وفـاة قائـد دولـة اختـزل في شخصه أمورا، بعضها قد يبدو متناقضا، والبعض الآخر متناسق ومتسـق. ولكن الجميع بمن فيهم حتى أعتى خصومه السياسيين كانوا يشهدون له بتميز استثنائي خاص. ولأن الحديث عن الرجل يستوجب وقتا طويلا ومساحات كبيرة واعتماد منهجية بحـث رصينة، واستحضار أبعاد مختلفة من حياته ومواقفه وقراراته وأفكاره واختياراته السياسية، وهو ما لا يسع المقام له، أردت في هذا المقال أن أعود إلى جزء من مناقب الراحل، والوقوف عند آخـر خطاب ألقاه طيب الله ثراه، يوم 9 يوليوز 1999، أسبوعين قبل وفاته. وأظن أن العديدين لا زالت عالقة بذاكرتهم تلك الكلمات والمواضيع التي تناولها، والتي بدت للجميع وكأنها أنها آخر الوصايا.

ورغم أن جلالة الملك الحسن الثاني بدى يومها متعبا على غير العادة، إلا أن رباطة جأشه وهيبته وسلاسة كلماته و وضوح معانيها ظلت، كما كانت دائما، دليل حضور متميـز، ليغادرنا الرجل أسبوعين بعد ذلك وليس لنا من ذكرى بشانه إلا أنه عاش شامخا ومات عزيزا كريما. 

ولأن الشيء بالشيء يذكر، استمرت الرمزية في كل ما كان يقدم عليه الملك الراحل حين حضر، بعد ذلك بخمسة أيام، إثر إصرار قوي من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، على أن يكون جلالة الملك الحسن الثاني كبير ضيوف الشرف لمشاطرة الفرنسيّين "عيد النصر" يوم 14 يوليوز بباريس، ونخبة متميزة من الحرس الملكي تستعرض أمام الحضور، معلنة في رمزية بالغة، انتصار قـائـد اقتربت ساعة معـادرته إلى دار البقاء، في عناية الرحمان الرحيـم، ليلج سجل تاريخ عظماء ساسة وقادة الدول في تاريخ القرن العشرين.

وليس أبلغ شاهد على وزن الرجل من تلك الجنازة المهيبة التي احتضنتها عاصمة المملكة، الرباط، والتي حج إليها أغلب وأهم رؤساء دول وحكومات العالم ليقدموا العزاء لوارث السر جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله. 

عودوا أرجوكم لمشاهدة فيديو تلك الجنازة المهيبة على اليوتوب، لتروا تلك الأمواج الهادرة من المواطنين الذين أتوا بمئات الآلاف، واصطفوا على جنبات الشوارع المؤدية من المشور إلى مسجد حسان، مرورا عبر شارع محمد الخامس وشارع الحسن الثاني وباب شالة، وهم يبكون بشدة بالغة حزنا على وفاة ملك فـذ، وأب راع، اختاره الله إلى جواره. فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.  

وأنتم تشاهدون تلك الصور الحية، ألتمس منكم أن تركزوا جيدا لترو كيف كان جلالة الملك محمد السادس واقفا بصمود وشموخ وإيمان واحتساب، يمد يديـه الكريمتين لتحيـة أبنـاء شعبـه، وكأنـي بجلالته يريد أن يمسح عنهم وجع الألـم والحزن، وكأني به يقول لمن فقدوا المغفور له من أبناء هذا الشعب "لا تقنطوا ولا تخافوا سنواصل المسيرة، وسنعبـر كل الصعاب بعزم وبشجاعة، وسنكمل بناء الدولة المغربية العصرية على أساس قيم الخير التي زرعها فقيد المغرب الكبير". وبنفس رباطة الجأش تقبل جلالته تعازي قادة الدول، وبها حمل جلالته، والأمراء الأشراف، نعش الراحل طيب الله ثراه، بصبر وتقديـر كبيـر لجسامة المسؤولية ولثقل اللحظة، إنسانيا وتاريخيا. 

ولأن الملك الشاب كان يُجسد حينها الأمل، كما هو اليوم يُجسد، لنا جميعا، كل الضمانات، ويحمل الرؤية الاستراتيجية ويحافظ عليها، ويحرص على استكمال ورش التحديث والبناء، وتعزيز الديمقراطية وتقوية المؤسسات، ويدعو في كل خطبه إلى استدامة الأمل، كان لافتا وذا دلالة عميقة أن الخطاب الأخير للملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، كان مركزا بالأساس على هموم الشباب ومسؤولية دعمهم.

ولأن دعم الشباب  يبدأ بالتعليم والتكوين، والمواكية الاجتماعية، والرعاية الرياضية والثقافية والصحية، لينتهي بتوفير الشغل أو تسهيل الحصول عليه، تحدث رحمه الملك الراحل عن "مسؤولية الدولة في تشغيل الشباب". ولسخرية القدر، سيأتي بعد ذلك بثلاثة عشرة سنة من يؤمن ب "نظرية تحريم التوظيف المباشر"، تحت مُبرر أن "الرزق عند الله".

يا ويحي… و يا ويحي… كما لو أن نهوض الدولة بمسؤولية تشغيل الشباب، أو دعم تشغيلهم بشكل كبير و واضح، سيجعل، والعياذ بالله، لذلك الرزق مصدرا آخر غير خزائن العزيز المنان سبحانه.

تحدث جلالة الملك الحسن الثاني في خطابه الأخير، بإسهاب عن منجزات حكومة الانتقال التي تمكنت، خلال سنة واحدة فقط، بإشراف من الوزير الأول السيد عبد الرحمان اليوسفي، من "تشغيل 11 ألفا من متخرجي التكوين المهني، و8800 من الذين لهم شهادة في مستوى الإجازة، و2000 من الدكاترة أو المهندسين ذوي المستوى العالي". وبين كيف تمكن المغرب من الوصول إلى تشغيل 21800 في سنة واحدة، مؤكدا رحمه الله أننا "لم نكن مهيّئين تمام لاستيعابها، ولكن الله سبحانه وتعالى أيدنا بقوته فأعطانا المخيلة اللازمة والإقدام اللازم لإدراك هذا الهدف".

وفي إطار ما كان يميزه من حرص على تعزيز الأمل، أضاف أنه "في إطار تشغيل الشباب، هناك آمال كبيرة مفتوحة أمامنا، ولكن المغاربة سواسية عندي، وسواسية أمام القانون فيما يخص حقوقهم، فلا يمكن لي شخصيا وللدولة المغربية أن تنكب فقط على ملف الشباب الحامل للشهادات، فالتشغيل هو واجب على الدولة بالنسبة لكل واحد. وهو حق من الحقوق الدستورية لكل واحد من المغاربة ذكرا كان أم أنثى". 

الكلام كان واضحا وقويا، ومنهجية تحقيق النتائج في تدبير الشأن العام كانت جلية لمن أراد التدبر: "الإقدام"، واعتبار المغاربة "سواسية أمام القانون والحقوق المكفولة"، و"احترام التزامات الدولة ومسؤولياتها"، و "المخيلة". هي نفس المبادئ لا زالت تركز عليها كل خطب جلالة الملك محمد السادس، عشرين سنة بعد ذلك، كما كان الحال أمام نواب الأمة قبل اسابيع، عندما طلب منهم العاهل الكريم أن يشتغلوا بإعمال "التجديد والابتكار"، وأن يستحضروا "النفس الوطني الصادق"، وأن يبتعدوا عن "الحسابات السياسوية"، وأن يحاربوا "الإنتهازيين" و يشجعوا "الأكفاء الوطنيين". وهو نفس الحرص الصادق المتجدد لدفع الحكومة، والفاعلين السياسيين، إلى تهييء الشروط لدعم شباب المغرب ومساعدتهم. وهي نفس الرغبة في أن تظل مجهودات الدولة في محاربة العطالة، مستمرة وصلبة أمام ضغوط المؤسسات المالية.

وللتدليل على أن المغرب قادر على رفع التحديات، بإرادة حكيمة، عندما لا يقف "وسط الطريق" هواة "تثقيل الإيقاع"، ومحبو الحسابات السياسوية، أذكر هنا بالمخطط المالي الكبير الذي كان قد خصص، قبل أكثر من عشرين سنة، لإدماج العاطلين، وفـق تصوّر يجعل من الجماعات المحلية والمؤسسات والمكاتب العمومية المختلفة، ومصالح الدولة، شريكة في ورش تأهيـل شامـل ينقـد الشباب من العطالة ويفتح الأمل. وهكذا بشر الملك الراحل في نفس خطاب 9 يوليوز 1999، أنه "في ظرف ثلاث سنوات إن شاء الله، من الآن إلى عام 2001، سنتمكن بحول الله وقـوتـه، وبإرادتـك شعبي العـزيـز وشبابي العزيـز، من أن نقوم بوثبـة جبارة، لا أقول بمعجزة لأن المعجزات تخص الرسل، ولكن بكرامة شعبية متضامنة، فنكون في ظرف ثلاث سنوات قد استوعبنا تلك الأعداد التي تراكمت على المغرب وشباب المغرب بوتيرة 60 ألف شاب وشابة في السنة". وأضاف قائلا "مع ما حققناه بالنسبة للشباب، ومع ما أعدكم بإنجازه في ثلاث سنوات، بالنسبة للفائض الذي تراكم علينا فيما يخص تشغيل الشباب، وما أعطانا الله سبحانه وتعالى من خيرات (….) سوف نرى إنشاء الله، شعبي العزيز، في أقرب وقت ممكن، الدنيا بألوان أخرى، وسوف تتسع الآفاق أمامنا إتساعا يليق بماضينا ويطابق مطامحنا، وسوف نطمئن على فلذات أكبادنا وعلى الأجيال الصاعدة".

بكل صدق حمل  خطاب 9 يوليوز 1999، من المعاني والدلالات ما يجعله يستحق أن نسميه "الخطاب الوصية" الخاص بالشباب. ولا أظن إلا أن اختيار المغفور له الحديث عن الشباب، كان بحدس المؤمن وبإحساس قوي بأن الوقت يضغط، وأن من الواجب تتميم المسيرة وأداء الأمانة التي حمل همها في قلبه لشباب شعبه، وتعزيزا لإيمانه أن شعلة الأمل يجب أن تظـل مشتعلـة في وجدان الشعب المغربي، كما سبق و اهتدى، رحمه الله، لتجاوز خطر السكتة القلبية قبل ذلك بسنتين، للخروج بالبلاد من النفق المؤدي للمجهول. الخطاب الوصية حمل الحكومة مسؤولية تتناول و تفعيل برامـج ناجعة لتنهـض بوضعيـة الشباب، وتشجـع اندماجهم الاجتماعي والاقتصادي، لتنـزل السكينة والطمأنينة في النفوس ويركز الجميع على ورش البناء والتنمية.

ثم شاءت الأقدار، أياما بعد ذلك، أي يتوفى جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، و يرث العرش جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، لينطلق تفعيل الوصية من خلال أوراش متعددة في عموم البلاد، عبر إشراف مباشر من جلالته، وانخراط جدي للحكومات المتعاقبة، فأتم إنجاز ما قد تم إنجازه من أوراش، وتحققت مُكتسبات كبرى وتجهيزات عملاقـة، واستمـر تفعيـل الإرادة الاستراتيجية، بدون شعـبـويـة ولا حسابات ضيقة.

ولا يمكن إلا أن نأسف ونحن نشاهد الصخب المتعالي في هذا الظرف الوطني التاريخي الدقيق، ونحن نرى أتباع طائفـة "تشجيع التحلل العضوي للوظائف المؤسساتية لآليات تدبير الشأن العام"، ونحن نرى تجليات ذاكرتهم الضعيفة، وأفقهم ضيق، وغرورهم المطلق، وهم لا يقرؤون التاريخ ولا يستنصحون. ويبقى الأمل معقودا على أن يهديهم الله، ببركة هذا اليوم وبركة الذكرى، ليستوعبوا أن صيرورة تاريخ المغرب لا تُحتسـب بالعُمـر الحكومي، وأن الشرعيات الحقـة راسخة في الوجدان الشعبي، ولا تنقص من قوتها الخطابات الشعبوية ولو أكثر أصحابها من الكلام والقهقهات. وأن  سيظهر دائما تجـذر ذلك الوعي الشعبي الأصيل في سلوك المغاربة عند كل موقف شديد الوطئة والحساسية. 

وتمنياتي أن يهدي الله كذلك أصحاب "طـائفـة التسفيـه والتبخيـس"، في لحظة صحوة وطنية حقيقية أتمناها لهـم، إلى فهـم أن النضال السياسي لم ينطلق في المغرب مع دستور 2011، إنما كان تتويجا لنضالات سبقته، يوم كان الكلام من ذهب وكانت المواقف تعكس العزة والإباء. وفهم أن تاريخ المغرب لا يدخله إلا المخلصون و ذوو الولاء الخالص للوطن، المولعين بإنجازاته وبعظمة رجالاته عبر العصور. وأما الحاضر والمستقبل فلا يصنعه إلا الذين يحفظون عن ظهر قلب أسماء العواصم الإمبراطورية المغربية أكثر من حفظهم لأسماء عواصم دول، "صديقة وشقيقة"، وتمجيدها والتماهي مع صانعي تاريخها.

ومع احترامي الصادق لشعوب تلك الدول، وتقديري الكبير للمشترك الحضاري بيننا، إلا أنني أصارحهم أن شباب المغرب لن يحبوا عواصمهم أبدا أكثر مما يحبون دلالات عواصمنا الإمبراطورية… مراكش وفـاس والـرباط ومكنـاس… وأنهم لن يُمجدوا شيئأ أكثر من تمجيدهم لما يعرفونه بشأن ما أبلته من بلاء حسن، و هي تقاوم الغزاة، سدا منيعا في وجه الطامعين، وجدة  و طنجة  وتطوان  والحسيمة  والناظور   والعرائش  والصويرة  وآسفي  وأكادير  والعيون  والداخلة. وأهم لن ينخرطوا أبدا في شيء آخر يناقض ما جسده المقاومون الأشاوس من سكان الدار البيضاء وتارودانت  والراشيدية والريصاني وفيجيج  وتازة  والشاون و وزان  وخنيفرة  وميدلت  وأزرو  وبركان وتاونات… ولن ينحوا باعتزاز وتقدير إلا لأرواح من جاهدوا هنا بكل غال ونفيس من قبائل الشاوية  ودكالة  وآيت باعمران  وزايان  وآيت وراين  وهوارة  وقبائل سوس  وآل الصحراء الأبية  وآل درعة  و صنهاجة و مصمودة… وغيرهم كثير. 

ولن أختم الكلام إلا بتجديد تأكيد اليقين أن شعلة الأمل ستبقى حية فينا، وفي شباب هذا الوطن، كما سيبقى الخير في أرض المغرب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها… وأن الغيث آت… وألا عزاء لدعاة التيئيس، إلا أن يعودوا إلى حضن الوطن الجامع، على أساس الكفاءة والاستحقاق والولاء لثوابت الوطن.

 

*فاعل سياسي ومدني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × خمسة =

زر الذهاب إلى الأعلى