توم وجيري.. 80 عاما من المطاردة والضحك والخيال
سلسلة كارتونية تستحضر كل تفاصيل الحياة المتضمنة لمكر المستضعفين وحماقة المكابرين.
في مثل هذه الأيام من عام 1940، انطلقت فكرة مرعبة و”شيطانية” من رأسي رسامين شابين أميركيين، لم يبلغا الثلاثين آنذاك، هما ويليام هانا، من أصول أيرلندية، وجوزيف باربيرا، وأصله من صقلية. كان ذلك في استوديوهات الرسوم المتحركة بهوليوود، لصالح شركة مترو غولدوين ماير، ذات الصيت الذائع.
الفكرة تبدو في ظاهرها ومنطلقها تقليدية، وتتعلق بذلك العداء الفطري بين القط والفأر، فحتى تراث الأدب العربي، يزخر بمثل تلك القصص التي تؤكد على أن السلام مستحيل بين هذين الكائنين، مثل حكاية الوزير الذي يريد أن يبرهن لملكه بأن الطبع يغلب التطبع، فأخرج من كمّ ثوبه فأرا وأطلقه أمام القطط المدرّبة على حمل الشموع في البلاط الملكي، فما كان منها إلّا أن انطلقت في مطاردة الحيوان المستضعف المذعور. وكادت تحدث حريقا هائلا في باحات القصر وأروقته لولا تدخل الخدم.
هؤلاء الخدم الذين لا نرى إلا سيقانهم وأقدامهم السمراء، وذلك من وجهة نظر القطط والفئران حسب سرديات الرواة وريشات الرسامين وكاميرات المخرجين، يكادون يكونون هم أنفسهم، في “توم وجيري”، هذا العمل الأعجوبة، الذي ينبهنا إلى أن عالما فلسفيا وسحريا يدور تحت عيوننا، وبين أقدامنا في الأوساط الحيوانية، دون أن نعيره انتباها.
مهلا.. من هذين الكائنين؟
الغرابة ما انفكت تحيط بـ”توم وجيري” في شتى ظروف الإنتاج والتوزيع وحتى النهايات والبدايات والتأويلات والإخفاقات. لنتمعن، أولا، في غرابة وطرافة وبساطة هذا العنوان “القط يتلقى ركلة” فيلم كرتوني أنجز وعُرض يوم 10 فبراير 1940، على يدي رسام يقال إنه من أصول سورية، وهو ويليام هانا، واسمه الأصلي بالعربية ويليام بن إبراهيم بن عبود حنا، وزميله جوزيف باربيرا، وهو أيضا رسام ومنتج أفلام أميركي وأصله من صقلية بإيطاليا.
لنتذكر أن هذين الاثنين قاما معا بكتابة وإخراج 144 فيلم كارتون لـ”توم وجيري” في الفترة من 1940 إلى 1957، وذلك باستوديوهات الرسوم المتحركة في هوليوود لصالح شركة مترو غولدوين ماير، لكن “القط يتلقى ركلة” كباكورة إنتاج، لم ينل النجاح الكافي حيث خسر في منافسات الجوائز، ما دعا الثنائي إلى إعادة الكرة هذه المرة بإعطاء القط والفأر اسمين جديدين وملامح مختلفة.
ومثل كل مولود كانت أسرنا العربية تخاف عليه من سوء الطالع، تحاول، دائما، تغيير اسمه على سبيل التفاؤل.. كن كـ”توم” ولا تعبأ بالخسائر، فدائما هناك مرة أخرى.
توم هو قطّ أزرق رمادي اللون يعيش حياة مدللة للغاية، أما جيري فهو فأر منزلي بني اللون يعيش في منزل سيدة.. المدلل هو الكسول دائما، أما الماكر فهو ذاك الذي يعيش على حساب المدلل.. لعلّها حكمة الكون، وسر توزيع الأرزاق.
لفظ توم في الأصل هو اسم عام يشمل القطط الذكور، وليس اسم لبطل المسلسل الكرتوني، وكان كاسبر، بينما جيري كان يسمى جينكس.
كل الذين يتابعون السلسلة الكرتونية، بل فلنقل “كل الناس.. فمن منا لا يعرف توم وجيري؟”، ويعلمون أن شخصية توم مبنية على أساس أنه حاد الطباع ومرفه، أما الفأر جيري فهو انتهازي لكنه يمتلك قوة كبيرة، مقارنة بجسمه وله ذكاء حاد.
هذا يعني نحس
معظم الحلقات تنتهي بفوز جيري إلا أنه في حلقات أخرى تكون النتيجة مغايرة تماما ويفوز توم خصوصا في الحلقات التي يكون فيها جيري معتديا كما يمكن أن تكون النتيجة هي خسارة الاثنين معا أو تصالحهما.
وهنا تكمن قدرة مبتكري الشخصيتين، على المفاجأة والتنويع وكسر المتوقع، حتى أن بعض الحلقات تجانب الكوميديا المعهودة، وتمضي نحو دراما تدمع لها العين وينشطر لها القلب.. لنتذكر دائما أن السلسلة أنتجت في عصر العملاق شارلي شابلن.
السلسلة لا تخلو من الميولات السادية والنزعات العدائية لدى الشخصيتين، وهي حالة تنتمي إلى الثقافة الأميركية بامتياز، وتنتصر لكوميديا الأشرار بدل دراما الحمقى والمغفلين.
الأكشن حاضر في كل لقطة من مغامرات توم وجيري، والمبالغة سيدة الموقف، فترى التصعيد يبلغ ذروته عند كل عثرة أو هفوة أو قفزة، وتتأزم الأمور عند إيقاظ الكلب من غفوته وحرمانه من عظم كان يلهو به بين قائمتيه.
ويتفق الجميع على أن الشخصيتين تتشابهان في ميولهما السادية فكل شخصية تجد متعتها في تعذيب وإيذاء الأخرى لكن عندما تتعرض إحدى الشخصيتين لخطر قاتل فإن الأخرى تسرع بإنقاذها ورغم أن معظم الحلقات تنتهي بخسارة توم إلا أنه لا يخسر فعليا أبدا طوال السلسلة حتى أنه يتذكر موته الظاهري في حلقات كثيرة عندما يقرأ ذلك في مفكرة جيري.. وهنا تكمن الفانتازيا التي تحبس الأنفاس.
سلسلة توم وجيري تستحضر كل تفاصيل الحياة المتضمنة لمكر المستضعفين وحماقة المكابرين. مطاردات وصراعات لا تنتهي، مكر وحيل وتحالفات لا تدوم كثيرا، قوة ثالثة قد تودي بحياة الغريمين التقليديين، وتتمثل في “شخصية الكلب”.. هل علينا التنبه إلى عدم الاستقواء بالغرباء كما يفعل جيري مع القط توم، غالبا، أم أن للضرورة أحكاما؟
يكفي أن تقول لأي إنسان على وجه البسيطة، وعلى سبيل المقاربة والإيجاز، “فلان وفلان آخر مثل توم وجيري” حتى يفهم قصدك، دون طلب توضيح. لقد دخلت هاتان الشخصيتان الكرتونيتان قواميس البلاغة ومفردات الاختصار والتعبير لدى كل شعوب الأرض، منذ ثمانين عاما، وسوف تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. حتى وإن أراد صانع آخر أفلام توم وجيري أن ينهي المطاردة بالمصالحة، والخلاف بالوئام، ضمن نزوع يروم السلام ويسعى للتطبيع بين العدوين الودودين أو الصديقين اللدودين.. لنقل “العديقين”، وفق نحت لغوي مبتكر، يرى في الصراع قدرا أبديا ومحتوما كما تؤكد أدبيات الدراما البشرية، والنظرية الماركسية التي استهدفتها استوديوهات هوليوود في الحقبة المكارتية، أثناء الحرب الباردة.
لم تنجح شخصيات كرتونية في التسلل إلى ثقافات كل الشعوب ودون استثناء مثلما فعلت شخصيتا توم وجيري، إذ هام بهذين الشخصيتين كبار ساسة العالم وزعماؤه، استشهدوا بهما في الخطابات والمحاضرات، وحتى في أوقات الاستراحة والاسترخاء كما كان يفعل الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بحسب المقربين منه.
القراءات والتأويلات لسلسلة توم وجيري، لا تنتهي. ابتدأت من الأمثال الشعبية، ودخلت حتى أقبية المخابرات الأميركية والسوفييتية قبل سقوط جدار برلين.. كل ذلك كان على وقع تلك الموسيقى الآسرة التي ألفها واختار مقطوعاتها العبقري سكوت برادلي. قاربها مع روائع التراث الموسيقي العالمي، مستعيذا بالصمت كأعلى درجات الكلام، وفي شبه كبير لما أنجزه أسطورة البلاغة البصرية في السينما، شارلي شابلن.
لنبدأ من البدايات في أربعينات القرن الماضي، وأغنية “أريد أمي” للبرازيلية كارمن ميراندا، ثم “هل أنت هو أم هو أنا” لعازف البلوز الشهير لويس جوردان، فأوبرا الإيطالي روسيني، وكذلك شوبان، وغير هؤلاء العمالقة الذين مثلوا في سلسلة أغرقت طفولتنا ضحكات وموسيقى، وكانت “بوابتنا نحو التذوق اللحني السليم” كما قال أحد النقاد.
التقطيعات الفيلمية وتقنيات الميكساج والمواءمة بين الصوت والصورة، في “توم وجيري”، تجعل العمل درسا حقيقيا في استنطاق الصورة وجعل الحركة تشبه سيلان الأصابع على لوحة البيانو أو فوق أوتار الكمان.
كأن ويليم هنّا، وزميله جوزيف باربيرا، “ينوّطان” للموسيقى بالرسم، وكأن عباقرة الموسيقى العالمية، يرسمون لهذين العبقريين بالأنغام دون أن يلتقوا بهما.
التطابق في الحركة والإيقاع الموسيقي يبلغان حد الإدهاش، وكل مكان تدور فيه مغامرات ومطاردات توم وجيري، يشي ويفوح بفولكلوره الموسيقي، فهذه أنغام الصالصا، والتانغو، والفالس والبلوز، تؤثث كخلفية لكل حلقة تدور أحداثها في المكسيك أو البرازيل أو النمسا أو أفريقيا.
العمل يعطي هوية موسيقية ومزاجا فلكلوريا وشعبيا في كل بلاد يحط فيها توم وجيري، مثل الرحالة ماركو باولو، أو المغامرة إيليس في بلاد العجائب.
لماذا كل هذه الأسطرة؟
كل شيء في سلسلة توم وجيري، يحيل إلى شيء آخر: الأمكنة التي تشبه أصحابها، المواقف التي تدغدغ الذاكرة والتاريخ، الهفوات التي سقط فيها المؤلفان من حيث النزعات العنصرية والتنمر وحتى الإيحاءات الجنسية وإظهار التحرشات، لكن المتعة موجودة عند كل فاصلة ومنعطف، فكأنما البشرية على موعد -ومنذ ألف عام- مع مطاردات توم وجيري، وما تحمله من غمز وإحالات واستشرافات.
حاز هذا الثنائي على أوسكارات عديدة، وفي عام 2000 وصفت مجلة التايم سلسلة “توم آند جيري” بأنها أعظم البرامج التلفزيونية للرسوم المتحركة عبر التاريخ، وجاءت السلسلة في المرتبة الـ66 ضمن مئة برنامج تلفزيوني واسع المشاهدة.
دخل توم وجيري المنازل وحلبات الرقص وصالات السينما والمسرح، ومازال العالم يتنفس توم وجيري، فلقد تأسست باسم هذين الاثنين محطات تلفزيونية خاصة، وفي عالمنا العربي، استضاف أخيرا، “كايرو فستيفال سيتي مول” كواحد من أهم علامات التسوق ووجهة الترفيه العائلي الأولى في مصر،”توم وجيري”، في عرض عائلي ترفيهي.
” توم وجيري” ليست مجرد سلسلة أفلام كرتونية اشترك في حبها الكبار والصغار، العامة والخاصة بل هي أسطورة نجاح محفوف بالإثارة والغرابة اللتين بلغتا بالعمل حد الأسطرة. كيف لهرّ منزلي أن يدخل التاريخ مع فأر مزعج ومشاكس.. يرافقان الأجيال منذ أيام الأبيض والأسود، ويشاكسان على الأيديولوجيات منذ أيام الحرب الباردة، وما زالا يحاوران المستقبل والحاضر في إمكانية وجود حل لأزمة مستفحلة ولدت مع الإنسان، وهي الصراع ثم الصراع فكأنما الحياة لا تستقيم ولا تبتهج دون صراع.
ثمة قصة موازية لتوم وجيري، لا بد من الإشارة إليها، وأعتقد أنها الأهم لأن الجميع يتذكر القط والفأر، لكنه يغفل عن “مامي تو شوز”، مدبرة المنزل السوداء السمينة، والتي لا يظهر منها سوى القسم السفلي وساقيها الغليظتين.
وعندما عرضت الحلقات الأولى على التلفزيون الأميركي، في ستينيات القرن الماضي، تم تعديل بعض المشاهد، واستبدلت شخصية مدبرة المنزل بشخصيات أخرى.
سرّ استمرار جاذبية “توم وجيري”، في رأي جيري بيك، الخبير بتاريخ أفلام الكارتون، والذي نقلت عنه “بي.بي.سي” في تقرير لها، يكمن في أن “الناس في أنحاء العالم يمكن أن يروا شيئا من أنفسهم في الشخصيتين”.
يعتقد بيك أن “معظم الناس يمكنهم التعاطف مع جيري صغير الحجم، فنحن جميعا نعاني من وجود شخص يضطهدنا؛ هناك دائما شخص ما، رئيس العمل، صاحب البيت، سياسي، أو أي كان.. نحاول أن نعيش حياتنا، في حين أن شخصا ما يحاول تعكيرها”.