القيم الجمالية والإيجابية في خضم وباء “كورونا”: رؤى معرفية ودلالات عرفانية
الدار/ خاص
في إطار مواكبة موقع “الدار” لمستجدات تفشي فيروس “كورونا” المستجد” كوفييد19″، ونهوضا من الموقع بدوره الاعلامي في تحسيس وتوعوية المواطنين بأهمية الوقاية والالتزام بالحجر الصحي لتجاوز هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها المملكة والعالم أجمع، يوصل موقع “الدار”، عبر صفحة “دين وحياة” نشر عدد من المقالات العلمية لباحثين وباحثات تتناول المنهج الرباني والنبوي في التعامل مع الأوبئة والأمراض المستجد. وفيما يلي مقال للأستاذ عبد الله عبد المومن موسوم بعنوان ” البعد الجمالي لتمظهرات القيم الإيجابية في خضم الوباء رؤى معرفية ودلالات عرفانية”:
إن أسمى مقامات الأعمال حين يُردف إليها صلاح الحال والمآل، وبناء على ما تثمره من جودة الثمار وعظيم النوال، ولا يوسم العمل بالإيجاب إلا بشرط الصلاح ابتداء، ولا يزال العمل يرتقي في سلم الكمالات حتى يرقى إلى مقام الإبداع، وقد عرف العلماء الإبداع ب: إنشاء شيء بلا احتذاء ولا اقتداء فإذا استعمل في الله فهو إيجاد شيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان (1). وقيلإيجاد الشيء من لا شيء، أو تأسيس الشيء عن الشيء(2).فالمدار فيما ارتقت إليه الهمة على الإيجاد والتأسيس عن أصل، أو بدونه.
ولا تزالُ عناية الله تحفّ بالعامل حتى يبدع، وبالعمل حتى يُثمر ويُونع، فإن احتف به بتصريف الأقدار ما يثني من العزم ويفتّ في العضد فذاك واقع اختبار وابتلاء، والوباءُ منه بل يطلق على البلاء العام الكثير، فيقال عنه: المرض العام، ويقال: الموت الكثير(3)، وهذه يمكن إضافتها إلى الحق سبحانه أو إلى الخلق، قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 35.
فتتجمّع المفاهيم المفاتيح في: الإبداع بوصفه مقاما من مقامات الأعمال، وفي البلاء بوصفه من عوارض الاعتبار أو الإهمال.
قد نعجبُ أنه في الوقت الذي يشتد فيه الخناق بسبب انتشار الوباء وكثرة أهواله المُفزعة، تسمو القيم الإيجابية وتتعالى صيحات الإبداع في العلوم الإنسانية والكونية وفي الصناعة والاختراع وفي الوجدانيات وغيرها، فنسمع عن اختراع أجهزة تنفس تسعف مرضى الوباء، وصناعة كمامات واقية، ومُولّدات غازات، واجتهادات فقهية، وإبداعات شعرية، وأخرى فنية جمالية راقية، ومنافسة شديدة في التسابق نحو التصنيع، والعمل والإتقان، والتطوع والإحسان، ولا ريب أنْ يستبطنَ ذلك معان وأسرارا راسخة.
لقد اقترن مصطلح الإيجابية بمركزية الخير والجمال في إبراز آثار الصنعة، وتجلية نقوش معاني الحسن والإتقان،وكل ما يجرى عليها من الأعمال والأوضاع إنما هو لإظهار خوارق الصنائع، وبدائع المهارات، وهي حقائق عملية نائية عن التجريد، بل هي معان مستوحاة من دستور الحق والهدى،من بديع تجليات أنوار القرآن الباعثة على العمل حتى يأتي اليقين، ويعبر عنها المفكر الصوفي بديع الزمان النورسي جمعا في هذا المقام بين سموّ الإبداع وإشكال الفتن والبلاء بقوله: “ففي الأوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب أنوارُ جمالٍ لطيف تشفُّ عن أشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، إظهاراً لأحكام بعض الأسماء الحسنى”(4) اهـ، فتنعكس في مرآة الإبداع والبلاءُ نازلٌصورةُجماليةِ الصفات المُوحية إلى صِدق الاقتباس، والباعثةِ على عمق الائتناس، ويمكن تبيّن ذلك من خلال المعالم الآتية:
اعتبار الشدّة والبلاء حافزا إيجابيا
بل بسببها يخلص الناظر إلى الإيغال في الأسرار، وارتشاف الحقائق والأنوار.وتصورُ الجمال في البلاء حقيق لتحفيزه على الأمل والعمل وهو عين الخير، دونه العدم فهو محور الشر.
وتفصيلُ ذلك أنْ لصور الآلام والبليّات وقعاً في تجدّد أنوار الوجود واضمحلال صور العدم في الحياة، فيحصلُ بهذا التجدّد صفاء السرائر وهو باعث على الارتقاء، باستصحاب النظر العلوي، إذ يقتبس المرءُ ما أمكن من الصفاء ويدعُ الكدر، فتزداد القوة كلما اشتدت الفتنة، فالشدة حسب المعنى المراد مفضية إلى الطهارة التي يتنامى بها ومعها الإدراك، وينبعث فيها الشعور بقدرة الله الحائلة دون كل شرّ كيفما كان، وما التوقف والتردد والرجوع القهقرى إلا إغراق في العدم الذي هو أصل كل شر؟، وأصلُ الشرور كما قال الفلاسفة العدم، والطبيعة تأبى الفراغ، أما العمل والإبداع فهو وجود، والوجود خير وعمارته سرور وسعادة.
ولا ضير وبناءً على هذه الحقيقة قد تعرض حالات على الحياة والأحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات أنوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، وإذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والأحوال. حتى إن أعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة (5)..
إن المنهج الواقعي في التعامل مع الإنسان والكون ينبيء في نصوص الوحي عن التنبيه على عنصري المنفعة والجمال باعتبارهما أصل الوجود، في الأول بجمال الصنعة والصبغة، وفي الثاني بحسن التقويم، والقرآن معجزة جمالية أعجزت في سر التعبير عن الجمال، وأسست لفنون القول ومراتب العمل، ومن ثم فلا تأثير للعوارض على العمل إلا بالإيجاب، والإتقان، والإبداع.
عدمُ تشتيت النظر بل صرفه إلى الذات، والإقبال على خاصّتها
إن حيلولة التوجّس دون الإقبال على العمل في إبّان البلاء باعث على التوقف مع الذات، وإمعانِ النظر في مراتب النفس، فربّ ساعة يقبل فيها العبد على مولاه اختيارا لا اضطرارا تُحقّقُ له ما لا يتناهى من السكون والاطمئنان، وهذا المقصود بإخراجالمكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا، فيحرك هذا الإمعان بواعث النهوض والعمل، ويعود المرء صالحا مع ذاته ومعناه، ومع غيره أيضا،) قُم فأنذر، وربّك فكَبّر، وثيابكَ فَطهّر)المدثر:2 ـ3.4.
والبحثُ عن مكامن الإيجاب والخير والإبداع له دواع فطرية وهبية قبل أن تصير عملية كسبية، وإنما المدار في انتقالها على تنمية القدرة الجمالية بما يتناسب مع قيم الكون والإنسان، فتلقى على المرء مسؤولية الإبداع تجاه القيميتين، والنظر في الذات باعث على تحقق هذا المعنى، بتنمية حوافز الإيجاد والبناء، وذلكم بإسقاط المرء الحظوظ والدخول في التشارك والتعاون والتكامل، وإمحاضه القصد في معاملة الرب، وسداد السعي لموافقة القلب، فتنحصر قوى الشر بل وتندحر، بهجر الذاتية والأنانية، وتُستبدلُ بعناصر الخير، والمنفعة، والجمال.
وقد تفطّن فلاسفة المقاصد إلى رعاية الجانب النفسي في حياة الناس، وتوصلوا إلى أن تحقيق التوازن النفسي سبب في تحقيق التوازن الفكري والاجتماعي، ولذا عرفوا المصلحة باللذة أو سببها، والمفسدة بالألم وسببه…
انسلاخ الذات في حوض الجماعة المبارك مدد رباني لمطارحة الشدة والبلاء
وقد نبه القرآن الكريم إلى ترجيح مقصد الوحدة والاجتماع في الدعوة إلى التوحيد زمن الفتنة والبلاء، وانظر إلى التعليل القرآني الذي أقره موسى في كلام أخيه: قال تعالى: “با ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولفرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي الآية…” طه:94، وقد قرر الرازي أن موسى عليه السلام لما فرغ من مخاطبة هارون عليه السلام وعرف العذر له في التأخير أقبل على السامري(6)، وفي الآية تعارض رعي مصلحة حفظ العقيدة وحفظ الأمة من الفرقة، والمسألة محل اجتهاد إذ أنزلت المظنة هنا منزلة المئنة، والمفسدة الغالبة منزلة المحققة، حفظا للغاية من قول موسى لأخيه ابتداء: “اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين” (الأعراف:142).
ولا يقرب المعنى هنا إلا بحقيقة البذل بالمعنى العام، وهو مقتضى الاستخلاف، فتنصهر البلايا مع حقائق القيم والمُثل العليا، يقول الدكتور محمد فتحي الدريني: وإذا كانت الفضائل مناط الوحدة، فإن الوحدة نفسها مناط السيادة، والنتيجة المنطقية أن الفضائل مناط السيادة، ومن هنا ندرك السر في قوله صلى الله عليه وسلم “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فطبيعة الوحدة روحية أو إن شئت قل عقدية. وهي قائمة على وحدة الفطرة، ووحدة الدين، ووحدة الغاية(7).
الائتمام برسالة الكتاب المسطور بل حصر النظر في أسراره دون سواها
فإذا اهتدى المتبصر إلى أن رسالة القرآن أسمى الرسالات، فهذي المداخل المسطورة إلى ارتشاف معاني الجمال وتنزيلها حية إن في واقع الاستقرار، أو التقلب والاضطراب.
وأول ما يلفت الانتباه في عناية القرآن الكريم بالعمل وثمراته هو التحفيز على التزكية حتى تنكشفَ حجُبُ الجهالة ومغاليق النظر والإبصار، وهذا ما يلازم سياق التدبر في آيات الكتاب المسطور والمنظور، يقول المفسر الصوفي ابن عجيبة رحمه الله: “تدبّر على حساب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهّر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجب عن أسرار معاني القرآن، ولو كان من أكابر علماء اللسان”(8).
والإشارة هنا إلى صفاء الظاهر والباطن ومدى إتاحة ما لا يتاحُ في زمان الشواغل والكدر، ولكنها طهارة النفس في الإقبال على عمل الدارين تفعلُ العجب العجاب، مع التفرد بالذات على غرار ما قال ابن مشيش: وحُلْ بيني وبين غيرك، وهو نفسه ما عناه زروق إذ قال: والأصل رفع الهمة عن الخلائق وإشخاص القلب للحقائق(9).
وتفصيله كما رواه أبو الحسن الشاذلي: أوصاني أستاذي رحمه الله ــ ويقصد مولاي عبد السلام بن مشيش :
“الله لله، والناس نزه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التماثل من قبلهم، وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عندك، فلا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك، وقد تم ورعك، وقل اللهم أرحني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم، واغنني بخيرك عن خيرهم، وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير” اهـ
وعلق الشيخ زروق على الكلام المتقدم عن الشاذلي وابن مشيش، فقال: وهو عجيب، وهي جملة جامعة لوجوه الآداب، وأصول التحقق في رفع الهمة.
استصحاب مقاصد المقاصد وغاية الغايات “الائتمام بقيم الجمال في الكون والإنسان”
حقيقة لما قرأت بديع هذا الكلِم “فما دام منبع جميع أنواع الجمال هو الوجود ومنبع جميع أنواع القبائح هو العدم، فلاشك أن أقوى وجود وأعلاه وأسطعه وأبعده عن العدم، هو وجود واجبأزلي وأبدي. وهو يتطلب أقوى جمالاً وأعلاه وأسطعه وأبعده عن القصور، بل يعبّر عن مثل هذا الجمال، بل يكون هذا الجمال، إذ كما تستلزم الشمس الضياء المحيط بها يستلزم الواجب الوجود جمالاً سرمدياً أيضاً، فينور به.
الحمد لله على نعمة الايمان(10).
قلتُ بعد التبصر في حقائقه حقا وصدقا: إنما الجمالُ من الجمالِ!!
ورسالة الجمال في القرآن سر كل مبنى ومعنى، وقد تعددت مراميه وتنوعت ضمائمه من البهجة، إلى الحسن، في صيغ متعددة، إلى الإتقان، إلى الجمال تصريحا، إلى معنى قيّم يتفرّع عنه سره، سُتر الحسن منه بالحسن، وكان الجمال لجماله وِقاء، ذاك الإحسان، الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء، الذي لا تحقق لمقصد العبادة والعبودية إلا بإزائه، بل جميع ما يتصوره الإنسان من خصائص وظيفية إلا وهو أحوج ما يكون فيها إليه، هو سر جمال الروح، حتى إذا دنا فتدلّى صار عِلما عَلما على القرب من الله وظيفة وسلوكا، وهو لا يحقق إلا معنى فريدا مفاده سموّ الروح بعمارتها بما يُجمّل كيانها ويقربها من خالقها، ويختزل المسافات في طريق الوصول بالوصال(11).
التحوّل من قابلية الشر إلى قابلية الخير
وذلك بالتخلّي عن الأنانية والانصراف إلى التشاركية، وهجر النوازع الذاتية والتحلي بالإنسانية، واستبدال الذاتية بالموضوعية، وما العمل الإيجابيالمتعدد المجالات في زمن الشدة من أجل الاكتفاء، والتطوع والخير والإحسان من أجل الاستغناء، إلا دليل على توظيف مهارات العقل في إنماء التكافل الاجتماعي، والإحسان الإلزامي، والإبداع الذاتي والمعنوي.
وإذا ما كان ثمة غرور وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه محقاً ومخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة، وعندها يفوته الإخلاص ويحبط عمله ويكون أثراً بعد عين، ولكن لا قابلية في وقت الشدائد لنوازع النفس الساعية حينها شطر التطهير والعزلة والصفاء ما أمكن، فتلقى عليها نوازع الخير بدل الشر، والعطاء بدل الجفاء.
وإنما المدار في تحصيل ذلكم التحول على بث قيم المحبة لأنها الباعث على الاتحاد في الحق، فإن عدمت اضمحل جانب الاتحاد وفقدت الواردات…، ولا بناء ولا إبداع حينها.
التحرر من القيود والتقليد ضمان الإبداع
إنه مهما تحول الحواجز دون إلهام مدارك الفطرة فإنها لا ولن تستطيع أن تبلغ شأوها ما دام نفسُ التزكية حاضرا، بل يزداد الإصرار والقوة والعزم، فيتحصّلُ الثبات على قيم الحق والعدل وهو مُوح بالتزام التحرر من قيود التبعية، علما أن الحق والحقيقة لا تقيّدان بشئ ولا تنحصران (في مكان وزمان معينين)، والثبات يورّثُ الاقتحام ومعناه الدخول الصعب العسير في تزاحم وتنافس بين جماعة كثيرين لكنه هنا وليد حاجة باعثة على التحرر من التقليد والاعتماد على الغير، وعكسُه على بواعث الأعمال بالابتكار المهول اعتمادا على الذات، واستئناسا بقدراتها الخارقة..
إن وراء هذا الإدراك سر الاقتحام في سني الأعمال وبلوغ الآمال، ومناكدةُ العدم بوسائل حسب حال الزمان وأهله ضامن سلامة العواقب بالائتمام بالتحرر ومطارحة الرأي الموهوم دون التعصب، إذ ليس معنى الاقتحام إلا الثبات على الحق والتيقن من عاقبته، والوسائل إلى أشرف المقاصد، أشرف الوسائل وأعلاها.