“كورونا” وتنامي الأخبار الزائفة… في منهج التعامل مع الإشاعة في سيرته ﷺ – إسلام الطفيل بن عمرو أنموذجا”
الدار/ خاص
في إطار مواكبة موقع “الدار” لمستجدات تفشي فيروس “كورونا” المستجد” كوفييد19″، ونهوضا من الموقع بدوره الاعلامي في تحسيس وتوعوية المواطنين بأهمية الوقاية والالتزام بالحجر الصحي لتجاوز هذه الظرفية الاستثنائية التي تعيشها المملكة والعالم أجمع، يوصل موقع “الدار”، عبر صفحة “دين وحياة” نشر عدد من المقالات العلمية لباحثين وباحثات تتناول المنهج الرباني والنبوي في التعامل مع الأوبئة والأمراض المستجد. وفيما يلي مقال للأستاذ د. محمد بن علي اليــولو الجزولي، أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط بعنوان ” منهج التعامل مع الإشاعة في سيرته ﷺ – إسلام الطفيل بن عمرو أنموذجا “، خصوصا في ظل انتشار الاشاعات والأخبار الزائفة في عز أزمة فيروس “كورونا”.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمْد لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد الأولين والآخِرين، وعلى آل بيْته الطَّيبين الطَّاهرين، وأَزْوَاجه أُمَّهات المؤْمِنين، وأَصْحَابه من الأنْصَار والمُهَاجِرين.
وبعد؛ فإن الإشاعة ظاهرة اجتماعية خطيرة وجدت مع الإنسان منذ فجر التاريخ؛ فقد تعرض لشرها الأنبياء والصالحون منذ الأزل، وفي القرآن الكريم حديث متواصل عن ما تعرض له هؤلاء الرسل من التهم الكاذبة، والإشاعات المغرضة من لدن نوح عليه السلام إلى خاتمهم محمد ﷺ.
ولهذا فإن استقراء نصوص السيرة النبوية الشريفة، وتوظيف نصوصها في عملية الإصلاح مشروع عظيم مكتمل الأركان، وإن من بين الأوراش الكبرى التي تحتاج للإصلاح اليوم ورش: طرق التعامل مع الإشاعة والأخبار الكاذبة، التي تنشر في الكتب، والجرائد، والمجلات، والإذاعة، والتلفزيون عموما، وفي مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا، حيث يسعى الواشون من خلال الإشاعة إلى بث سمومهم بين الناس، فيتلقفها من لا عقل له؛ فيسرع إلى نشرها في المنتديات والمجالس، فتنتقل بذلك الإشاعة بينهم كالنار في الهشيم، ويزاد أو ينقص في حجمها، مع تزايد الأفواه والأقلام الناقلة لها، فكم من نفوس بريئة نالتها ألسنة حداد بالغيبة، وكم من أرواح طيبة نيل من عرضها بالبهتان، قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [1].
من هنا يتبين لنا خطر الإشاعة، وضررها العظيم في تدمير قواعد المجتمع وتماسكه، وتقويظ سلمه المجتمعي، فكم من جمع فرقته، وكم من ود قطعته، وكم من بيت خربته، وكم من دول أشعلت نار الحرب بينها.
ونبينا محمد ﷺ ناله النصيب الأكبر من هذه الإشاعات المغرضة، والأخبار المزيفة، فقد شيع عنه المشركون أنه مجنون، وأنه يفتري الإفك، ويحكي الأساطير قال تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)[2]، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[3].
كما نجد في أحداث سيرته ﷺ الكثير من المواقف التي تعرض فيها النبي ﷺ للإشاعات، سواء في العهد المكي، أو المدني من ذلك: أنه في مكة أذاع عنه المشركون حملة من الإشاعات المغرضة لصد الناس عن قبول دعوته؛ من ذلك ما قام به هؤلاء لصد الطفيل بن عمرو الدوسي من اتباع النبي ﷺ ، وكذلك أشيع أن مشركي مكة أسلموا بعد الهجرة للحبشة، وفي غزوة أحد أشيع بأنهﷺ قتل في ميدان المعركة، وفي صلح الحديبية أشيع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل، وفي غزوة مؤتة أشيع في المدينة أن الصحابة فروا من المعركة ، بعدما رجع خالد بن الوليد ببقية الجيش لما استشهد قادته الثلاثة،…إلى غير ذلك من الإشاعات التي حمل وزر إذاعتها بين المسلمين ثلاثة أصناف من الناس: المشركون، واليهود، والمنافقون.
ولهذا يحسن بي استنطاق بعضا من هذه النصوص السيرية، لأجل استمداد منهج النبي ﷺ في التعامل مع الشائعات، طلبا لإيجاد حلول ناجعة لعلاج هذه الآفة في المجتمع المسلم؛ وسأقتصر هنا على دراسة نموذج واحد من سيرته ﷺ تتمظهر فيه الإشاعة بشكل كبير ألا وهي: قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، ومحاولة المشركين صد الطفيل عن دعوة النبي ﷺ بنشر الشائعات حول دعوته وشخصه الكريم ﷺ، ثم أختم بمنهج التعامل مع الشائعات:
وقصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ذكرها ابن سعد في الطبقات قال:” أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون الدوسي، وكان له حلف في قريش قال: كان الطفيل بن عمرو الدوسي رجلا شريفا شاعرا كثير الضيافة , فقدم مكة ورسول الله ﷺ بها , فمشى إليه رجال من قريش , فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وفرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه , وبين الرجل وبين أخيه , وبين الرجل وبين زوجته، إنا نخشى عليك وعلى قومك مثل ما دخل علينا منه , فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه، فغدوت إلى المسجد وقد حشوت أذني كرسفا – يعني قطنا – فرقا من أن يبلغني شيء من قوله حتى كان يقال لي: ذو القطنتين، قال: فغدوت يوما إلى المسجد , فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي عند الكعبة , فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله , فسمعت كلاما حسنا , فقلت في نفسي: واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح , فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف إلى بيته , ثم اتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت معه , فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالو لي، فوالله ما تركوني يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لأن لا أسمع قولك، ثم إن الله أبى إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا , فاعرض علي أمرك، فعرض عليه رسول الله ﷺ الإسلام وتلا عليه القرآن , فقال: لا والله ما سمعت قولا قط أحسن من هذا، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق…» [4].
والظاهر من خلال هذه القصة أن المشركين حاولوا القيام بدعاية (بروباغندا) موجهة ضد النبي ﷺ، فروجوا شائعة على الطفيل مفادها: أن النبي ﷺ فرق جماعتهم، وشتت أمرهم، وأن كلامه سحر يفرق بين الرجل وأبيه, وبين الرجل وأخيه, وبين الرجل وزوجه.
وفي الحقيقة فإن المغزى العميق الذي سعى إليه المشركون -مروجوا هذه الشائعة – ما هو إلا محاولة إحداث وقيعة وقطيعة بين النبي ﷺ والمهتدين الجدد لينفضوا عنه، ولهذا ختم المشركون هذه الشائعة بقولهم للطفيل: “إنا نخشى عليك وعلى قومك مثل ما دخل علينا منه , فلا تكلمه ولا تسمع منه”[5].
إن هذه الإشاعة على الرغم من زيفها وبطلانها؛ إلا أنها تركت في بادىء الأمر أثرها على الطفيل رضي الله عنه حين قال:” : فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه، فغدوت إلى المسجد وقد حشوت أذني كرسفا – يعني قطنا – فرقا من أن يبلغني شيء من قوله حتى كان يقال لي: ذو القطنتين “[6].
من خلال هذه القصة نستخلص أيضا: أن منهج مقارعة الشائعة، وتفنيدها، وردها يكون بالاستماع إلى الطرف الآخر الذي قيلت في حقه الإشاعة، فربما يكون عنده رأي مخالف للطرف الأول، وهذا ما فعله الطفيل رضي الله عنه، فلم يكتف بما سمعه من المشركين في حق محمد ﷺ؛ بل سعى للاستماع منه، وبيان وجه الحقيقة في الأمر، وهو أمر مطلوب في تصحيح الأخبار والشائعات، ولهذا قال: “فغدوت يوما إلى المسجد , فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي عند الكعبة , فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله , فسمعت كلاما حسنا , فقلت في نفسي: واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح , فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف إلى بيته , ثم اتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت معه , فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالو لي، فوالله ما تركوني يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لأن لا أسمع قولك، ثم إن الله أبى إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا , فاعرض علي أمرك”[7].
لقد راعى النبي ﷺ في مواجهة هذه الإشاعة البعد الأخلاقي من خلال التحلي بالصبر والتأني، واستجماع قوة النفس، والاستعلاء بالإيمان في تعامله معها، ولهذا مر معنا أن أول شيء فعله النبي ﷺ هو عرض دعوته ودينه على الطفيل بن عمرو رضي الله عنه، ثم تلا عليه القرآن الكريم ثانيا ، وأوضح له الحجة ، ولهذا بداهة لم يتأخر إسلام الطفيل رضي الله عنه بعد هذا البيان الفصيح المختصر , فقال: “لا والله ما سمعت قولا قط أحسن من هذا، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق”[8].
من خلال هذه القصة نخرج بخلاصة في غاية الأهمية ألا وهي: أنه ينبغي على المؤمن المتقي أن يحسن ظنه دوما بالناس، ولا يتسرع في الحكم عليهم، بل يتريث، ويتحرى، ويسأل عن مصادر الخبر، وتقليبه على عدة أوجه؛ لأن الكلام حمال أوجه، وأن لا يأنف في استشارة أهل الحل والعقد من المصلحين الصادقين، ليكسب موقفه نوعا من المصداقية والثقة، ولهذا نرى الله تعالى مدح المؤمنين الذين ظنوا الظن الحسن في قصة الإفك، ولم يتسرعوا مثل المنافقين، واعتبروا تلك الشائعة إفكا، وكذبا، وبهتانا، قال تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[9].
وعلى المؤمن أن لا يتسرع بنشر الشائعات، ويتلذد بنشر وقائعها على المنابر والمنتديات، فإهمالها أولى من إعمالها مصداقا لقوله تعالى:(وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [10]، وأن لا يتشفى بأخيه، ويشمت به؛ بل الواجب عليه بدل النصح لأخيه، وتنبيهه بالتي هي أحسن، لأجل إصلاح الغلط، ورأب الصدع؛ لأن الدين النصيحة، ولا خير في من لا يقبل النصح أو الإصلاح.
هذا ما تيسر لي ذكره في هذا الموضوع ، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجزي كاتبه، ومصححه، وناشره، وقارئه.
والحمد لله رب العالمين